كثيرا ما حفلت الأعمال الأدبية بنقل لسير ذاتية عاشها الكتّاب، موغلين في التفاصيل التي كشفت ولو جزءا بسيطا من حياتهم ومن عوالمهم، التي ظلت مجهولة إلى حين الإفصاح عنها بطرق مختلفة. والسيرة الذاتية هي نوع من الكتابة يتطلب ذاكرة ووصفا دقيق الخصوصية، وأحيانا تجرّدا وموضوعية. ورغم اختلاف التفاصيل من كاتب إلى آخر فإن السيرة الذاتية الأنثوية تظل نادرة، لما فيها من أسرار وخفايا قد تتحرج الكاتبة من ذكرها وإخراجها من عالمها الضيق إلى عالم القراء والجمهور.
في مجموعتها الشعرية “نحن الذين نخاف أيام الآحاد”، تُدخل الشاعرة اللبنانية رولا الحسين، القارئ في مناخ وحدتها، هناك حيث ما من يد تمتدّ لتأخذها بعيدا، شارحة له سرّ كآبة مديدة تعيشها في لحظات عديدة.
والحسين اختارت أن تكتب في مجموعتها الجديدة سيرتها الذاتية، فجاءت القصيدة على فطريتها، صارت تقول أشياء كاشفة عن مواضيع وأمور لا يجرؤ على قولها كل الشعراء، فكيف إن كنا نتحدث عن شاعرة امرأة، قد تستبق فعل الكتابة بتخمين عن محاكمة المجتمع لها؟
يقول الناشر في المقدمة “كيف يستحيل البوح الحميم، والبَثّ إلى دفتر اليوميات، قصائد جريئة لاهية؟ إنه سرّ من أسرار ما تكتبه رولا الحسين، الجامعة عفوا بين الطفولة والشهوانية والأحزان”.
سيرة ويوميات
تبدو رولا الحسين، في مجموعتها، الصادرة عن دار “الجديد”، كشاعرة من نسيج بنيوي متفرد، إذ أنها تتحدث بتلقائية، قد يرتاب منها الرجال الآخرون، هكذا هي واضحة، في علاقتها مع الرجل في القصيدة ذاتها، قد تفضل أن تبقى معه على كنبة صغيرة، دونما تهيّؤ، لفرضيات اللقاء الأول والمغازلة ثم التواعد، ويلحّ في كل القصائد هذا التساؤل، عن كيفية قضاء يوم الأحد؟ وكأنها كارثة آتية، ماذا تفعل في هذا اليوم، الذي عادة ما يتخفف من الانشغالات؟ فيكون فارغا واسعا بالوقت، وكاشفا لما هو عليه حال الأشخاص في حياتهم.
على الرغم من الجمل الطويلة الرشيقة، التي تستخدمها الشاعرة، في حديثها عن يومياتها إلا أنها أيضا تلوذ إلى الاختزال والتكثيف، في بعض القصائد، فكما أن هناك رجلين في مساحة قلبها يتصارعان، مع رضا كليّ منها، فإن هناك طريقتين لكتابة القصيدة. وفي القصيدة التي عنون بها الكتاب تحديدا، “نحن الذين نخاف أيام الآحاد”، نجد أن اللغة الشعرية مختلفة كليا عن الوصف الشعري، السردي في بعض المرات، في القصائد الأخرى. تقول الحسين “نحن الذين/ لانحدّق/ بعيون أحدهم/ طويلا/ كي لا تهرب/ أرواحنا منا”. ليس هذا مجرد وصف شعري، إنها تتحدث عن نوعية من البشر، لا يتمكنون من النظر المباشر إلى الآخر، إنها سمات بشرية، لدى البعض، وهي واحدة من هؤلاء، الذين يندهشون من الخطوط البيضاء على الطرقات السريعة، أيضا.
قد يتسرب إلى القارئ تشتت ما، من أسلوب الشاعرة، وربما كان هذا لصيقاً، إلى حد بعيد، مع الحالة النفسية، وظروف كتابة النص، لكنه صادق، وليس دالاً على ركاكة نصية، إلا أن تعاملاً هو على شاكلة هذا التعامل، مع القصيدة، يجعلها أمام ثغرة تبرير عدم الاكتراث، الذي يلحق بالكلمات، من الواقع المعيش إلى كتاب منشور.
في قصيدة “رسالة إلى لينا”، صديقة الهذيان اليومي، تقول الحسين “فلنبحث عن شارع آخر/ عن أرصفة وحانات جديدة/ عن شبان لم نتسكع معهم بعد/ ورجال لم نمارس وحدتنا معهم بعد/ لنذهب يا صديقتي حيث لا يعرف أحد عنا أي شيء”.
هذه الرغبة في البداية من مكان مجهول، والمتوالية مع رغبة نسيان شيء ما، هي ثيمة لهشاشة داخلية، فمهما كان مختلفاً وصعباً، المتخلى عن تذكره، فاليقين بتأثيره وتضاعفه على الجسد والخلوة النفسية، هو الأمر المؤلم.
دعوة إلى التأمل
أدركت رولا الحسين الحب، لكنها لم تقفز إلى البحر، بل جلست على الكنبة وراحت تتهكم عليه وعلى ذاتها “كرمش/ كظفر مقصوص/ كنمشة… بإمكانها أن تقذفني بعيداً عن كنبتي وتلفازي وأعصابي”.
وفي الحقيقة، إن القصائد تدعو إلى التأمل فيها، وربطها مع كتاب الشعر، الذي أصدرته سابقاً الشاعرة “أتحرك فقط ليكنسوا الغبار تحتي”، الصادر عن دار الغاوون/ 2009، فهذه الرغبة بالمكوث وعدم التحرك، هي موجودة في القصائد الجديدة، فرولا الحسين لا تريد مغادرة المنزل، تريد البقاء، هي إذن، تعيش نقيضين من الرغبة، الرغبة الأولى هي في الحركة الهائلة والجنون المقترن مع اللذة، أما الرغبة الثانية فهي رغبتها بالتلاشي، والقيام باللافعل، أي انتظار محرك، أو حدث دراماتيكي يغير حياتها، رغم أنها تدعي أنها تريد تجربة عوالم جديدة، وتكاد تقترب من البوح عن تلك العوالم.
ذلك الصراع البادي في قصيدة “صراحة”، في قولها “لم أكذب حين قلت لكَ/ سأحبك بجنون/ ولم أكذب حين قلت له سوف أحبه بجنون”، لابد أنه يكشف خدعة عميقة، تشبه تلك الخدعة التي يمارسها الكبار، عند سؤال طفل صغير “من تحب أكثر، الأب أم الأم في حياتك؟”، ورغم أن الإجابة المتوقعة هي أن الطفل يحب والديه معا، لكن الخديعة حدثت، ووقعت بها الشاعرة، إذ أنها تخاطب الأول.
تتحدث الحسين، بعد ذلك، بضمير الغائب عن الآخر، أي إنها تميز واحداً عن الآخر، ولا بد أن ذلك مرده مخاضات هائلة عاشتها، في علاقتها الأولى مع الحب الطفولي، الأمومي والأبوي، وهل مازالت تعيش تلك الصراعات إلى اليوم؟ ومن هو الذي لا يتحرك إلا ليكنسوا الغبار من تحته، هو غالباً شخص، يعيش عجزاً جسدياً، لكن العجز هنا، هو عجز نفسي محض عن التحرك والفعل، ومن هم أولئك الذين يلاحقون الشاعرة في قصائدها، ليمنعوا عنها الرغبات الواسعة، والعزلة الفرحانة مع رجل متخيل، أو مع رجل موجود، فعلا؟
قصائد أنثوية جريئة تتوجس من محاكمة المجتمع !!
بقلم : رنا زيد ... 26.03.2016
المصدر: العرب