ونحن نقرأ رواية «سارق الجمر» العمل البكر للكاتب المغربي أحمد أولاد عيسى، الصادرة مؤخرا عن دار روافد للنشر والتوزيع، تنتابنا أسئلة عدة، فنية ودلالية، لعل أولها، هل هي رواية تسجيلية، أم أنها تدخل ضمن أدب الاعتراف الذي يفتقده الأدب العربي في الغالب، أم أنها تذكرنا بأدب الالتزام والدفاع عن أيديولوجيا معينة؟
ورجوعا إلى متنها السردي، نجدها حبلى بكل ذلك، فهي تعج بأحداث تاريخية وسياسية واجتماعية حساسة عاشها المغرب منذ السبعينيات، وهو في نظري زمن الحكي الاسترجاعي في الرواية، أحداث ووقائع حقيقية عرفت بسنوات الجمر والرصاص إبان المد الماركسي اللينيني وبداية نشوء الحركات الإسلامية، حصرها الكاتب في فضاء الجامعة المغربية (في فاس تحديدا)، حيث سجل استحضارا وتداعيا للصراع الأيديولوجي والفكري والعقدي والنضالي بين الطلبة الماركسيين وغرمائهم الإسلاميين، مما دفعه بالتعريج على أهم الأحداث السياسية والاجتماعية التي عرفها المغرب والوطن العربي منذ النكسة العربية 67، والانبطاح التطبيعي الذي وقعه أنور السادات مع الكيان الصهيوني في كامب ديفيد، إلى أحداث أخرى كثيرة معروفة موثقة بالأسماء والتواريخ، الأمر الذي يدفعنا للقول بأن هذه الرواية تنهل من جمالية الرواية التسجيلية التي توثق وتذكر بأحداث تاريخية حقيقة، رغبة من الكاتب في صنع تماه بين التاريخي/ السياسي وبين الأدبي، على اعتبار أن الرواية كجنس أدبي هاضم وعابر لكل الخطابات والألوان النصية، فهنا تنفتح على الواقع والتاريخ والسياسة والأيديولوجيا بكل محمولاتها الصدامية، إنها إضافة إلى ذلك مزاوجة بين الجمالية الفنية وفن التوثيق، وترهين للتاريخ الماضي بكل أهواله لمساءلته من جديد على ضوء الحاضر الذي تلون بمخلفات تلك المرحلة الساخنة بتناقضاتها.
ومن جهة فنية أخرى نجد الكاتب قد توسل بشخوص تنتمي إلى فصيل الطلبة القاعديين (سعيد وعلي) وأخرى (ليلى وخديجة وأمينة…) جمعهم الحب الصعب والخيانة والصداقة والأخوة والنقاش الفكري الحاد والحلم بالثورة والتغيير، حيث لا ملمح لبطولة فردية، إن هي إلا بطولة جماعية مهزوزة بالخيبات والمعاناة في زمن انحطاط القيم وإجهاز المخزن على أحلامهم وطموحاتهم، وأيضا في ظل صراعهم مع الفصيل الإسلامي الصاعد. ورغم ذلك نجد أن السرد يسلط أضواءه على سعيد وعلي كرفيقين عرفا مسيرة نضالية خائبة توجت بمنعهما من متابعة الدراسة والزج بهما في السجن لخمس سنوات بتهم نضالهما القاعدي والمس بسمعة النظام، ليعودا إلى فضاء الجامعة، وهنا يبدأ الحكي والاعتراف ملء النقد الذاتي، في إطار سردي استرجاعي لذلك الماضي، تداعيات كثيرة مشتتة عبر الفصول الخمسة للرواية. وما لفت نظرنا هو انسحاب السارد بخلفيته العليمة بخبايا الشخوص مع نهاية الفصل الأول، بعد أن قدم شخوصه وفرش لمظاهرها وحالاتها، فاسحا المجال لعلي وسعيد وليلى وأمينة في ما تبقى من الفصول للبوح والتوصيف والاعتراف والنقد الذاتي.
لقد عمد الكاتب إلى دفع شخصيتي علي وسعيد (وهنا بؤرة دلالة الرواية وقصديتها الأيديولوجية) إلى الاعتراف الصريح بخطئهما الأيديولوجي، عبر جلد الذات ونقدها والتراجع عن قناعاتهما النضالية والفكرية ذات المنزع الماركسي اللينيني، كيف لا وقد آل بهما الأمر إلى المنع من الدراسة والسجن، لقد كانت غاية الكاتب بسط أطروحته المبطنة بتوصيف هذا النوع من النضال الذي عرفته الجامعة المغربية بالهشاشة والعدمية إزاء نضال آخر ناشئ (الحركة الإسلامية ذات المنشأ والهوية المغربية الأصيلة) منتصرا بذلك للحلم بثورة إسلامية حقيقية، ولو على حساب أجندة أخرى مغايرة للمرجعية المذهبية المغربية، حين وظف ضمنيا معانقة شخصية علي فكرا وعملا لصالح الاستخبارات الإيرانية، كعميل للثورة الإسلامية الإيرانية في أوروبا وباقي أنحاء العالم بعد أن انتشلته هذه الأخيرة من حالة الضياع والبؤس التي عاشها في بلاد المهجر. إن هذا التوظيف وهذه التقنية الفنية التي لجأ إليها الكاتب تحيلنا مباشرة إلى أدب الاعتراف، ولو عبر لسان الآخر وبضمير الغائب، لأننا نشتم فيها تماهي سيرة الكاتب الذاتية مع بعض شخوصه والأحداث التي عايشوها، لذلك كان توظيفه ذكيا لانسحاب سارده الورقي مبكرا كما أسلفنا، وللغته التي تجترح معجمها استعارة واقتباسا من الحقل الديني، ليدفع بشخصيتي سعيد وعلي إلى التراجع عن أيديولوجيتهما الفكرية والنضالية المهزوزة، التي لا تصلح لهذا الوطن، وإلى الاعتراف بأخطائهما التاريخية والسياسية عبر مونولوجات داخلية كما الشأن مع علي في الفصل الثاني، أو من خلال سعيد وأخته أمينة…
نشير أيضا في زحمة هذا السرد الاسترجاعي الذي عرف تكرارا وتذكيرا ملحوظين وزائدين هنا وهناك عبر الفصول الخمسة للرواية، ما خلق نوعا من التذبذب والتشتت الذي لم يحترم انتظامية السرد، كما ألفناه في عالم الرواية عامة، لكننا نلتمس لذلك مسوغا فنيا لهذه التداعيات التي تعود بالدرجة الأولى إلى التشتت النفسي والنضالي للشخصيات التي لم تستطع لملمة رؤاها وتصوراتها التي عصفت بها كل تلك العوامل السياسية والفكرية المهزوزة، ما جعلها أسيرة التذكر المستمر لأهوال ومآس لا تفتأ معها ان تتذكرها باستمرار.
رواية «سارق الجمر» نص أدبي يغري بالسفر فيه للتعرف على مجاهل المغرب الماضي بكل تناقضاته، إنه بذلك وثيقة أدبية وتاريخية سياسية معجونة بالصراع الأيديولوجي، وبالتحولات الفكرية لدى الطبقة المثقفة، ناهيك عن كونه توليفة جمالية بين الأدبي والتاريخي التي راهن عليها الكاتب لطرح أسئلة كبرى جديرة بتذكر مغرب الجمر والرصاص.
رواية «سارق الجمر» لأحمد أولاد عيسى: سردية التسجيل وصراع الأيديولوجيا!!
بقلم : سعيد السوقايلي ... 09.03.2016
ناقد مغربي