أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ميشيل خليفي: مهموم بصورة الفلسطيني الآخر !!
بقلم : أمير العمري  ... 28.02.2016

المخرج ميشيل خليفي مهموم بتقديم صورة أخرى مغايرة للفلسطيني التقليدي، أي المقاتل الذي يذوب في الجماعة وينكر ذاته من أجل القضية.
برز اسم المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي بقوة على الساحة السينمائية في العالم مع عرض فيلمه “الذاكرة الخصبة” في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1980 حيث فاز بجائزة النقاد العرب، فقد كان الفيلم اكتشافا حقيقيا لموهبة مخرجه مواليد الناصرة عام 1950.
في شبابه المبكر عمل ميشيل لخمس سنوات في إصلاح السيارات، ثم غادر إلى ألمانيا عام 1970 وكان في العشرين من عمره، لكي يتدرب في مصانع فولكس فاغن، ولكنه عرّج أولا على ابن عمه في بلجيكا الذي أقنعه بالبقاء وكان وقتها مولعا بالفنون، ثم عثر على فرصة للالتحاق بمعهد الفنون في بروكسل، ، فدرس اللغة الفرنسية لمدة عام، ثم التحق بقسم المسرح والتلفزيون، وكانت الأطروحة التي حصل بها على الدرجة، تتناول “أشكال التعبير الثقافي في فلسطين”، ثم التحق بعد تخرجه عام 1975 بالعمل في التلفزيون البلجيكي لكي يخرج عددا من الأفلام التسجيلية التي صوّرها في فلسطين.
من بين هذه الأفلام فيلم “حدث في كامب ديفيد” الذي صوّره في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفيلم آخر عن المستعمرات الإسرائيلية في سيناء، وكانت أفلامه الأولى أفلاما “حدثية” كما يقول ميشيل في مقابلة أجريتها معه، أي ترتبط بالحدث السياسي المباشر. ويضيف أن هذه التجارب ساعدته في تطوير لغته السينمائية، وكذلك رؤيته وموقفه الفكري والفلسفي ونظرته للتاريخ، وأيضا إلى الذاكرة وكيف تولد الذكرى من الصورة.
الذاكرة الخصبة
تجربة ميشيل في أوّل أفلامه الطويلة “الذاكرة الخصبة” تصل التاريخ بالذاكرة. لكنه أساسا، فيلم عن الصمود الفلسطيني، عن التمسك بالأرض، من خلال قوة المرأة الفلسطينية وقدرتها على التمسك بأرضها وهويتها ودفاعها عن ثقافة شعبها، ومدّ يد الأمل للجميع، للأجيال القادمة.
في الفيلم شخصيتان لامرأتين: المثقفة والكاتبة المستقلة والمدرّسة “سحر خليفة” من نابلس بالضفة الغربية المحتلة، التي تتخذ طريقا مستقلا في الحياة، لا تأبه بالتقاليد العتيقة، تنفصل عن زوجها، وتخوض وحدها رحلة العمل والكفاح من أجل تربية أبنائها، كما تعبّر يوميا عن التمسك بالتاريخ وبالهوية من خلال إشاعة الوعي الثقافي بين الذين تقوم بتعليمهم، وتتصدّى بكل قوة للاحتلال الإسرائيلي وتكشف مخططاته. أما الثانية فهي “رومية فرح” من الجليل التي أصبحت داخل إسرائيل، وهي سيّدة مسنّة خاضعة للتقاليد على نحو ما، لكنها تتمتع بقوة وصلابة مدهشتين، تتمسك بالأرض، تتشمّمها، تعبّر عن ارتباطها بهويتها من خلال إيمانها بحق أحفادها في استرداد الأرض التي سلبت.
ينتقل الفيلم بين الشخصيتين في بلاغة بصرية آسرة، خاصة وهو يربط طوال الوقت، بين الإنسان والأرض، مؤكدا على أن قضية فلسطين قضية ترتبط بالأرض كما ترتبط بالهوية وبالتاريخ والتقاليد. إنه لا ينتقد ولا يدين، لكنه يدعم فكرة الوعي بدلا من النضال المسلح.
يقول ميشيل خليفي “صوّرت ما أحب: المرأة هي أساس الفيلم وتداعيات ذاكرتها هي التي ترسم التجربة الإنسانية الفلسطينية، في حين أنّ خطاب الرّجل مبنيّ على الهرمية الرّجولية بشكل سلطوي”.
ميشيل مهموم بتقديم صورة أخرى مغايرة للفلسطيني التقليدي، أي المقاتل، الذي يذوب في الجماعة، ينكر ذاته من أجل القضية، يبدو دائما مثل البطل الإيجابي في أفلام “الواقعية الاشتراكية” السوفييتية، خاصة في الأفلام الفلسطينية التي ظهرت بعد 1967. وفي فيلمه التالي الكبير “عرس الجليل” (1987) يطمح خليفي إلى تقديم عمل سينمائي ملحمي، يبرز دور الثقافة والتقاليد الشعبية الفلسطينية، ويصوّر الصمود اليومي للإنسان الفلسطيني في مواجهة الاحتلال على مستوى شاعري رومانسي محمّل بالإسقاطات السياسية، ولكن من خلال التأكيد على الإنسان الفرد، همومه وتطلعاته، وفي الوقت نفسه، ينقد سلبياته وتمسّكه بالعادات البالية التي تقتل الروح وتجعل الدوران في الوضع الراهن سببا إضافيا للتفوّق الصهيوني.
يبدأ الفيلم بمختار قرية فلسطينية يتوجه إلى مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي لكي يطلب منه رفع حالة حظر التجوال في القرية لمدة يوم واحد حتى يتسنّى له الاحتفال بزواج ابنه الأكبر. يوافق الحاكم الإسرائيلي شريطة أن تتم دعوته مع ضباطه لحضور الحفل. يرضخ المختار للطلب الغريب رغبة منه في إتمام زواج ابنه في احتفال كبير لم تر القرية مثيلا له من قبل، مما يثير اعتراضات الكثير من شباب البلدة، ثم يبدأ قسم منهم في الإعداد لشن هجوم مسلّح على الحاكم العسكري الإسرائيلي ورجاله.
وسط هذا الجو المشحون يبدأ الحفل ويستمر حتى الصباح، ويصوّر خليفي ما يدور في الداخل من مشاحنات وصراعات تعكس التناقضات الكامنة في المجتمع الفلسطيني: المختار في تعامله الخشن مع ابنه، رغبة الأب الأنانية التي تتناقض مع آراء شباب القرية الذين يرونها دعوة للأعداء، مقاطعة شقيق المختار الحفل بسبب حضور الإسرائيليين، هذا التوتر ينعكس على الابن ويؤدي الى عجزه عن القيام بواجب الزوج تجاه عروسه، وما يترتب على ذلك من تداعيات واتهامات وتشنّجات لها علاقة بالموروث المتخلّف في مجتمع ذكوري وانعكاسات ذلك على العلاقة بين الرجل والمرأة، والتشبث بحلول سلبية. ورغم ذلك يحرص ميشيل على إبراز الطابع الثقافي الفلسطيني الأصيل متمثلا في العادات والتقاليد الاحتفالية والأزياء والطقوس الخاصة باحتفالات العرس، وقدرة التراث الفلسطيني على ابتلاع الغريب القادم من الخارج.
ميشيل يجمع بوضوح في فيلمه بين القمع الجنسي والعجز عن الخروج من المأزق الفلسطيني، أي بين خضوع الفرد للتقاليد العتيقة في مجتمع بطريركي قمعي، وبين عجز حركة “الكفاح المسلّح” عن تحقيق الهدف المنشود، مشيرا إلى استحالة تحقق الهدف الثاني دون أن يتحقق الهدف الأول.
نشيد الحجر
وفي فيلم “نشيد الحجر” (1990) يمزج ميشيل التسجيلي بالروائي كعادته، فيصوّر رجلا وامرأة كانت تربطهما قبل 20 سنة علاقة حب، لكن الرجل قضى سنوات في سجون الاحتلال، بينما غادرت المرأة إلى بريطانيا. وهي تعود الآن للقيام بدراسة موثقة عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي كانت مشتعلة وقتها، وتلتقي بالرجل في القدس، حيث يسترجع كل منهما ذكريات الماضي، ومسؤولية كل منهما عمّا وقع من فراق.
يمتلئ الفيلم بمشاهد البساتين والأرض، ويتضمن مقابلات مع المشاركين في الانتفاضة وأُسَرِهِمْ، والجرحى الراقدين في المستشفيات، ويصور كيف يشعر الأب بفقدان ابنه، والأم بموت أبنائها، ورغم ذلك يصرون جميعا على الاستمرار في المقاومة، ويصور في مشاهد طويلة مباشرة قيام الجنود الإسرائيليين بهدم بيوت الفلسطينيين المشاركين في الانتفاضة، كاشفا عن فظائع العيش تحت الاحتلال، مؤكدا على فكرة استعادة الحب كمعادل للتماسك ومقاومة النسيان.
الجواهر الثلاث
في عام 1995 فاجأ ميشيل خليفي عشاق أفلامه بفيلم روائي طويل هو الأكثر طموحا خلال مسيرته كلها. إنه “حكاية الجواهر الثلاث” الذي عرض في مهرجان كان السينمائي. وفيه يتابع خليفي بحث طفل فلسطيني (12 سنة) من جيل الانتفاضة عن هويته، بين الواقع والأسطورة والحلم. إنه يروي قصة حبّ بين “يوسف” ابن المخيمات في قطاع غزة، و”عايدة” الغجرية الهائمة على وجهها التي تتزعم مجموعة من الفتيات والصبية. الأحداث تقع في غزة وقت الانتفاضة، قبل عودة السلطة من الخارج بعد اتفاق أوسلو. ويصوّر الفيلم أجواء القلق والتوتر والعنف السائدة، وكيف تلقي بظلالها بقوة على الشخصيات من الأجيال المختلفة، كما يصور العلاقة بين جيل الأجداد (النكبة) وجيل الأحفاد (الانتفاضة).
جدة يوسف تمنحه قلادة حملتها معها من يافا عندما اضطرت لمغادرتها في الماضي، يقوم يوسف بدوره بإهدائها إلى حبيبته عايدة لكنها تكتشف فقدان جواهرها الثلاث، وتقول الجدة ليوسف إن الجواهر الثلاث موجودة في أميركا الجنوبية، فيقرّر يوسف السفر إلى هناك ويظل يبحث عن طريقة للخروج واستعادة الجواهر الثلاث.
إنه ذلك الحالم الذي يتعرف أيضا على تراث الأجداد ويظل هائما في تلك المنطقة التي تقع بين الواقع والحلم، في بناء أشبه بقصص الأطفال والحكايات العربية القديمة التي تمتلئ بالحكمة. وكما أن يوسف هو ابن الانتفاضة فإنه أيضا ابن ثقافته المكتسبة بالحكمة والفلسفة والإيمان الديني العميق دون تشدّد. وعندما يجعله خليفي يستفيق على الحقيقة، على ما يحدث حوله، ويدرك ضرورة اكتساب المعرفة والوعي من الواقع، دون أن ينبذ الخيال، فإنه يستعيده في المشهد الأخير، من الموت إلى الحياة، ويبقي عليه باعتباره رمزا لا يموت.
إنها رؤية شديدة الرونق والسحر والجمال، وفيها يلخّص ميشيل خليفي فلسفته الخاصة في علاقته بوطنه، بتاريخه، بماضيه وحاضره، ورغبته في أن يرث الجيل الجديد الخيال دون أن يغفل عن الواقع أو ينسلخ عنه.
زنديق
أما فيلم “زنديق” (2009) فهو أكثر أفلام خليفي تعبيرا عن سيرته الذاتية، فبطله يحمل اسم “ميم”، أي الحرف الأول من اسم ميشيل خليفي نفسه، وهو مخرج سينمائي يعود إلى بلده بعد سنوات طويلة قضاها في المهجر الأوروبي، إلى الناصرة في فلسطين لكي يفتّش، باستخدام كاميرا الفيديو الرقمية الصغيرة، في الذاكرة الفلسطينية التي ترتبط بجيل النكبة، جيل 1948، بحثا في تاريخ تلك الكارثة التي ألقت ولاتزال تلقي، بظلالها القاسية على الواقع الفلسطيني بأسره.
يدور الفيلم كله في ليلة واحدة، يبحث خلالها البطل عن مأوى، أولا في كنف منزل أسرته، لكنه يتلقّى خبرا مفاده أن ابن شقيقه قَتَل رجلا، ويتعين عليه بالتالي، أن يهرب لكي لا يصبح هدفا للثأر من جانب أسرة القتيل، وهو ما يحدث بالفعل، فسرعان ما تحضر مجموعة من المسلحين يحاصرون منزل الأسرة بينما يتمكن “ميم” من الفرار بسيارته، ويظل يبحث بعد ذلك، عن مكان يؤويه، في فندق من فنادق المدينة، ولكن كل جهوده ومحاولاته تبوء بالفشل، فهم يتشككون فيه، كونه الغريب القادم من الخارج، الذي لا يعرفون ماذا يحمل معه من مشاكل لمدينة تعيش بالفعل في حالة رعب من داخلها ومن خارجها، ضمن واقع ينتشر فيه العنف والجريمة والثأر، واحتلال يخيّم على أطراف المدينة.
وعندما يحاول “ميم” العودة إلى منزل أسرته، يجد نفسه مطاردا مرة أخرى، من قبل الأشقياء الذين يحاولون النيل من حياته، فينتهي داخل سيارته، لكنه لا يصبح آمنا، فسرعان ما يجد نفسه محلّ شكّ من جانب عصابات تحتجز أطفالا قدموا من غزة تحت وطأة الظروف الحياتية الشاقة، بحثا عن أيّ عمل، فيقعون فريسة لتلك العصابات التي تستولي على أعضائهم الداخلية بعد إجراء عمليات جراحية لانتزاع تلك الأعضاء والمتاجرة بها.
أسلوب التداعي
يقوم بناء الفيلم على التداعيات الحرة، والانتقال بين الماضي والحاضر، وبين طبقات مختلفة، فهو ينتقل من الواقع الذي يبدو أقرب إلى عالم الأحلام والكوابيس، إلى استدعاء الذاكرة والتفتيش في داخلها، إلى محاولة العثور على حقيقة ما وقع في الماضي، من خلال كاميرا الفيديو التي تساهم أيضا، على نحو ما، في تكثيف إحساسنا باغتراب البطل عن واقعه: فالكاميرا تعزله تماما عن المحيط، ويصبح بحثه عن “الحقيقة” مرتبطا بإطار صغير هو إطار الصورة كما يراها من منظور الكاميرا.
وهو يسعى إلى دفع أقاربه: والدته وعمه وجيرانه، إلى الحديث عن الماضي، عمّا كان، وعمّا إذا كانوا مسؤولين، على نحو ما، عمّا حلّ من نكبة، أو عن تلك النظرة الأخرى، من الخارج، التي تحاسب أولئك الذين بقوا في الداخل الفلسطيني، بعد أن أصبح الوجود الإسرائيلي حقيقة خانقة، تساهم في زيادة “الاغتراب”.
يقوم الفيلم على التلاعب بالزمن، وبالحدث، بحيث يستدرج المتفرج للولوج إلى “متاهة” لا تنتهي، فلقاءات البطل مع أمه تتداعى في مشاهد من نوع “الفلاش باك”، ويطرح “ميم” الكثير من التساؤلات التي لا يحصل أبدا على إجابات عنها: لماذا لم تقولوا لنا ماذا حدث؟ أين الخطأ فيما مررتم به في حياتكم؟ لماذا لم يطردوكم؟ لماذا بقيتم ولم تنزحوا مع النازحين؟ هل هناك عيب فيما حدث، أي في بقائكم؟
هذه اللحظات التي تعكس الشعور بالاغتراب، وتكثّف تمزّق الشخصية الرئيسية وحيرتها وشعورها الثقيل بالذنب، هي التي تجعل هذا الفيلم أحد أشجع الأفلام التي صنعها سينمائي فلسطيني في نقد الذات.
هذا “العذاب” الوجودي الذي يشيع في الفيلم طولا وعرضا، وهذا العالم المسدود دائما، هما ما يدفعان البطل إلى مزيد من التمرد والرفض للقيم العتيقة المستقرة. والتي يعتبر بعضها أيضا من “المقدس” أو “المسكوت عنه”.

المصدر: العرب
1