برز اسم عبد الهادي السعيد أول ما برز في مجال الشعر، إذ أنه أصدر مجموعة من الدواوين التي نالت إعجاب واستحسان القراء والمتتبعين، ابتداء بديوان «تفاصيل السراب»، الذي حاز من خلاله جائزة اتحاد كتاب المغرب سنة 1996، ثم ديواني « لا وأخواتها « و»روتين الدهشة»، وصولا إلى «الحدائق ليست دائما على صواب» الصادر هذا العام عن بيت الشعر في المغرب. بالموازاة، سبق له أن أصدر باللغة الفرنسية نصا روائيا ومسرحية عن دار لارماتان في باريس، إضافة إلى ترجماته في مجال الشعر، نذكر منها ديوان «قريني العزيز» لعبد اللطيف اللعبي.
رواية «شامة والشمس» هي آخر إصدارات هذا الأديب الشاب، وهي رواية تقوم على محكيين رئيسيين تقوم بينهما الكثير من علاقات التصادي والتّضعيف، مما أحالها إلى رحم موّلّد لمحكيات وشخصيات تتشابه وتختلف بطريقة شبيهة بلعبة المرايا المتقابلة.
تقوم رواية «شامة والشمس» على محكي رئيسي هو محكي خالد الهيلالي، وهو شاب حديث العهد بالطلاق، يعيش حالة نفسية مضطربة اضطرته إلى المواظبة على زيارة طبيب نفساني. يضطلع خالد الهيلالي في هذا النص بدورين أساسيين: دور الشخصية الرئيسية ودور الراوي، غير أنه نظرا لظروفه النفسية فإنه يحكي عن أشياء يعتقد أنه عاشها وهو لم يعشها في الواقع. فهي مجرّد تهيّؤات وأوهام كما هو الشأن بالنسبة لعلاقته بسامية ابنة أخت شامة، التي أضحى يعبّر عن إعجابه بها وحبه لها خاصة بعد أن ساعدته في تنظيف شقته. فمباشرة بعد اختفائها المفاجئ وبحثه المضني عنها سنكتشف أن سامية لا وجود لها في الواقع، وأن هذه الشخصية مجرد وهم من أوهامه. وقد حاولت شامة نفسها إقناعه بأنه ليس لها أي أخت، وبأنها لا تعرف أي فتاة باسم سامية: «خالد قلت لك إن آخر مرة قابلت فيها واحدة اسمها سامية تعود لسنوات خلت، حتى إنني لم أكن أعرفك في ذلك العهد». يعتبر إذن، المزج بين محكيات حقيقية وأخرى مختلقة بسبب الحالة النفسية للراوي، من أهم الخصائص البنائية لهذا النص، وهو ما يفرض على المتلقي الكثير من اليقظة والانتباه حتى لا تلتبس عليه خيوط هذا النص المتشابكة. فسامية التي احتلت مكانة مركزية في هذا النص، رغم أنها مجرد شخصية متوهّمة ليست إلا صورة أو طيفا لشخصية حقيقية هي شخصية جيهان، التي كانت تجمعها بالراوي علاقة عشق حقيقية آلت إلى الفشل، ما أضطرها إلى الهجرة إلى الجارة إسبانيا. وقد تكون ذكرى هذه العلاقة من أهم أسباب الاختلال الذي يعاني منه الراوي، كما يمكن اعتبار علاقته بالنساء، سواء نوال زوجته السابقة أو كاميليا أو سامية… ليست إلا بحثا عن طيف جيهان الهارب والمنفلت. أما شامة الخادمة الفقيرة والبئيسة فتعود علاقتها بالراوي إلى جيهان نفسها، التي كانت قد استقدمتها إلى بيته كي تساعده على تنظيفه وترتيبه، ورغم انقطاع العلاقة بينهما لمدة خمس سنوات، إلا أنه قرر مباشرة بعد طلاقه البحث عنها من جديد، غير أنه عندما رأى بيتها الذي يشبه القبو قرّر أن يساعدها على امتلاك منزل تدخله الشمس ويليق بآدميتها.
يمكن اعتبار محكي شامة إذن، هو المحكي الرئيسي في هذه الرواية وبؤرتها المركزية، فمن خلاله تتفرع باقي المحكيات وتتوزّع، إلا أن هذا المحكي لا يخلو بدوره من بياضات ومن مسارات مختلقة من طرف راو يخلط بين الحقيقة والوهم بسبب ظروفه النفسية المضطربة، كما يتداخل محكي شامة مع محكي ابنها عصام الذي زجّ به مشغّله الحاج المكي في السجن بعد أن دسّ له قطعة حشيش كي يتخلّص منه.
هكذا أصبح شغل خالد الشاغل بسبب ظروف كل من شامة وابنها عصام هو مساعدتهما معا؛ الأم في امتلاك شقة والابن في الانتقام من الحاج المكي. وقد تأتّى له ذلك في آخر المطاف رغم المخاطر والصعوبات التي واجهته. فقد ساعد شامة على سرقة أموال ومجوهرات مشغّلتها مدام آسية التي راكمت ثروة هائلة من الدعارة، وكذا بفضل ما تركه له والدها الذي اغتنى من احتكار الصحون البلاستيكية في المسيرة الخضراء. أما بالنسبة لعصام فقد تدبّر له مسّدس تمّ السّطو عليه بمساعدة إحدى بائعات الهوى، مما حوّل حبكة الرواية في بعض الأحيان إلى حبكة بوليسية، كما أن محكي عصام يتصادى، هو الآخر، بشكل واضح مع فيلم
«كنز سييرا مادري»، حيث أن البطل بات ماك كرميك خدع عماله ونصب عليهم ثم اختفى عن الأنظار، من دون أن يمنحهم أجورهم. غير أن شخصين سيتعقّبانه وسيتربّصان به إلى أن ينتقما منه شر انتقام. يقول الراوي في هذا الصدد موجها كلامه لعصام:» أنت غرضك الذهاب أبعد من دوبس ورفيقه. تنوي قتل الحاج مكي. تريد أن تثأر لك ولكل العمال الآخرين، بل تريد تخليص العالم من ذلك الوغد..». ولعل مردّ هذا الحماس الطوباوي الذي يميز شخصية الراوي أحيانا إلى طبيعته الحالمة والمضطربة التي كانت تجعل منه، في بعض الحالات، موضوعا للريبة والسخرية.
وإلى جانب علاقة التصادي التي توجد بين العديد من شخصيات ومحكيات هذا النص، يمكن اعتبار مخطوط «شامة والشمس» للكاتب الحقيقي خالد الغرباوي انعكاسا محرّفا لتجربة هذا الكاتب نفسه. فهذا الأخير يعرف شخصية حقيقية تدعى شامة ولها ابن يدعى هو الآخر عصام، كما أن الكاتب الحقيقي يواظب على زيارة طبيب يدعى الغزواني، غير أنه ليس طبيبا نفسيا، بل هو طبيب عيون، ومساعدة هذا الطبيب بدورها تدعى كاميليا وهكذا دواليك من التشابهات ومن النسخ المحرّفة عن صور وتجارب حقيقية. فقد استهوت الكاتب لعبة المرايا هذه بشكل فاتن فجعل منها مكوّنا رئيسيا من مكوّنات نصه الإبداعي، بل دفع بها في بعض الأحيان إلى مستويات أقصى كما فعل مع شخصية عصام، الذي جعله يتصادى مع إحدى شخصيات رواية «السراب» لنجيب محفوظ، وهي شخصية استوحاها صاحبها من حياة شخصية حقيقية، وهي شخصية حسين بدر الدين. وقد كاد هذا الأخير أن يعرض حياة نجيب محفوظ للخطر في حكاية مشهورة رواها نجيب محفوظ نفسه يقول: « تعرضت حياتي للخطر بسبب إحدى الشخصيات التي استوحيتها من الواقع، أقصد بطل السراب (…) كان هذا الشخص من الأثرياء ضيّع ثروته حتى تسوّل… كانت العقدة في حياته علاقته بأمّه، وكان دائما يصاحب العديد من النساء، وفي الوقت نفسه لا يمارس أيّ فعل… «. ولم تخل حياة كاتب «شامة والشمس» خالد الغرباوي نفسه من مشاكل مع عصام، إذ أن هذا الأخير بدوره قرر الانتقام من الكاتب إلا أن الالتباس الحقيقي الذي سيظل عالقا بذهن المتلقي هو أي عصام سيعترض طريق الكاتب، أهو عصام الحقيقي أم عصام المتخيل؟
ولعل اختيار السعيد عبد الهادي هذا الخلط بين الوقائع والمعطيات يبقى الهدف منه هو إرباك المتلقي وإنتاج نص تتشابه محكياته وشخصياته إلى درجة يستعصي التمييز فيها بين النسخة والأصل. وقد ساهمت نرجس زوجة خالد الغرباوي في فكّ بعض خيوط هذه الالتباسات بعد اطلاعها خفية، على مخطوط زوجها.
هكذا يتّضح أنّ عبد الهادي السعيد جعل من اللعب مكوّنا أساسيا من مكونات نصه الإبداعي. فهو يلعب بمسارات شخوصه وبمحكياته وعوالمه بطريقة تخلق للمتلقي الكثير من الارتباك.
ختاما يمكن اعتبار رواية «شامة والشمس» إضافة جديدة لمنجز الكاتب الإبداعي. فهو يتميز ببنية مركبة وبتعدد المحكيات والرواة، وبالقدرة على التوليف بين مسارات متباينة ومختلفة، كما أنه نص يحتفي بالعديد من الخصائص الشكلية والتيمية التي جعلت منه إنجازا يستحق القراءة والإنصات لدلالاته المتعددة والملتبسة.
لعبة المرايا في رواية «شامة والشمس» للمغربي عبد الهادي السعيد!!
بقلم : عبد المجيد الحسيب ... 29.11.2015
ناقد مغربي