أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الرمزية والأيديولوجيا في رواية "مسك الكفاية"!!
بقلم :  فراس حج محمد  ... 08.08.2015

تعدّ إعادة كتابة التاريخ مجازفة كبيرة، وإعادة إنتاجه روائيا مجازفة أكبر، كما تعدّ إعادة تحميل الرواية أبعادا أيديولوجية أو رمزية أو واقعية مجازفة كبرى، لذلك فإن الروايات التاريخية وتعدد مصادرها واختلاف بنيتها الدلالية والنصية تحيل النص الروائي الجديد المعتمد على التاريخ إلى إشكالية ذات جدليات فكرية ومذهبية قد تصل إلى العقائدية أحيانا.
في رواية الكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي “مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرة”، الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، سيجد الدارس العديد من الإشكاليات الجدلية التي تمس الدلالة الكلية لاستعارة حدث تاريخي موغل في التشعبات السياسية والاجتماعية والفكرية، إذ لم تقف الرواية عند مجرد إعادة القص لحكاية تاريخية، ربما بدت تلك الحكاية عادية لكثير من قراء قصص العرب وحكاياتهم والذين لا يرون فيها سوى مادة للمتعة فقط.
تتضح من العنوان والعتبات النصية الأخرى المصاحبة للرواية والمصادر التي اعتمد عليها المؤلف وأشار إليها في نهاية الرواية، الرؤية التي تحكم السرد وتوجّهه ليخدم فكرة ما ولتشكل الحكاية الأم روحا يتمدّد في جسد الرواية ليمنحها التشويق والمتعة، مع الجزم أن خندقجي لم يكتب روايته للمتعة والتشويق دون أن يحملها أفكاره وأمنياته وتطلعاته، وأهمها وأجملها وقعا هزيمة واقع أسود للتخلص من سيطرته المرعبة.
سيدة الظلال الحرة
تتشكل الرواية من عشرين فصلا، يختار الكاتب للفصول الفردية (1-19) السرد على لسان سيدة الظلال الحرة، والتي كان اسمها المقاء بنت عطاء بن سبأ ثم الخيزران، والتي تسرد فيه بضمير المتكلم “أنا” رحلة سبيها منذ اللحظة الأولى وحتى وصولها إلى السوق (سوق النخاسة)، وبيعها بسبعة عشر درهما بعدد سنوات عمرها الغض.
وفي هذه الفصول تكشف المقاء رحلة بحثها عن حريتها، فقد رمت نفسها في أتون الرق من أجل أن تنتزع حريتها انتزاعا من الذين سلبوها إياها على الرغم من أن بمقدورها أن تظل حرة وتعود إلى ذويها، بعدما خلصها الفارس الصحراوي الأنهد بن الورد من قبضة العباسيين، لكنها لم تشأ أن تظل طريدة فارّة قابعة في ذيل السلم الاجتماعي، تعاني ما تعاني من قسوة أخرى، لذلك رمت نفسها في نيران مستعرة لتحرر نفسها على طريقتها.
أما الفصول الزوجية (2-20) فإن السارد يقدم وجهة نظر معينة للأحداث التاريخية الواقعة في العصر العباسي والممتد على فترة زمنية طويلة منذ لحظة استيلاء العباسيين على الحكم عام 132هـ وحتى ما بعد استلام هارون الرشيد للخلافة، حيت توفيت الخيزران “أم خليفتين وزوجة خليفة” سنة 173 هجرية.
لم تخرج الرواية عن إعادة تأكيد تلك الصورة النمطية للعصر العباسي، والمتمثلة في نقطتين مهمتين؛ شهوة الحكم وشهوة النساء، وكأن هذا العصر عصر مواخير كبيرة متاحة في كل مكان، وخاصة قصور الخلفاء والأمراء، وما يسود تلك القصور من دسائس ومكائد كبيرة من أجل تحقيق الشهوة الكبرى ألا وهي شهوة الحكم والسلطان.
وقد سادت هذه النظرة بين المثقفين والسياسيين المعاصرين وبعض المؤرخين القدماء، وظهرت في كتبهم ولا سيما الكتب التي اعتمد عليها باسم في نسج روايته، وتكمن المشكلة هنا أن هؤلاء القوم أصحاب أيديولوجيات فكرية أو أهداف سياسية أو مجرد جامعي أخبار غير موثوق بها، تجمع لمجرد “الإمتاع والمؤانسة”، ويتعامل المعاصرون مع أحداثها التاريخية كأحكام مطلقة وحقائق مسلم بها، على الرغم من الانتقائية والتأويل المختلف لغيرهم، والتي أشار إليها يوما المفكر العربي اشتراكي النزعة جورج طرابيشي في كتابه المهم “مذبحة التراث”. وعلى الرغم من ذلك، فإن الروائي لا يعيد كتابة التاريخ، وليس مطلوبا منه ذلك، عليه أن يقدم جديدا، ويبثه بين ثنايا الفكرة والسرد، فما هو الجديد الذي قدمه خندقجي في هذه الرواية؟
لقد استفاد خندقجي من قراءاته المتعددة التي أتاحتها له سنوات السجن الطويلة ليقرأ ويتأمل معتمدا على نظرته الخاصة، وتحليله الشخصي، متسلحا بوعيه الفكري والسياسي، فيبني حكايته المتماسكة روائيا بقدر كبير من الشجن والحزن والكآبة الواضحة في ذلك المصير الأسود لكثير من الشخصيات الحقيقية والروائية في المتن الروائي.
رموز ودلالات
تدور الرواية حول ثلاثة رموز مهمة كانت حاضرة في كل فصل أو حكاية أو حدث تاريخي، وهذه الرموز هي:
أولا: العباءة، حيث يلتقط باسم هذا النوع من اللباس العربي والمرتبط بدلالات كثيرة ويحمله دلالاته الفكرية الخاصة في الرواية، فمنذ أن أسبغ الرسول الكريم “بردته” على كعب بن زهير في تلك الحادثة المشهورة بعد فتح مكة، حيث أهدر دمه نتيجة موقفه من الدعوة الإسلامية آنذاك، حتى اشتهرت دلالتها الرمزية المتمثلة في الحماية، ينعم بها كبير القوم على شخص مستضعف فيمنحه القوة ويصبح معصوما لا يحق لأحد أن ينتهك هذه الحماية، وإلا سيعرض نفسه للموت.
وثانيا: الصحراء التي تشكل في الرواية بيئة جغرافية محملة بأعباء تاريخية وسياسية كبيرة، وغير بعيد عن أثر الصحراء في نفس العربي الذي ورث عنها القوة والصبر والكرم والمروءة، تحضر الصحراء في الفصول الفردية المشار إليها سابقا كرمز لبيئة عربية خالية من الأحقاد والضغائن، لا يعترف سكانها بثنائية السيد والعبد، ولا يخضعون لسلطان غير سلطانهم الذاتي، أحبوا الصحراء وأحبتهم، وكانت تعطيهم ما لا تعطيه لأعدائهم.
وثالثا: المرأة، حيث من أكثر القضايا التي حضرت في الرواية قضية المرأة، ليس لأنها تتحدث عن المرأة ومسيرتها الرمزية في مراحل متعددة فحسب، بل كذلك لأن المرأة كيان إنساني كامل الأهلية، كالرجل تماما؛ ولدت حرة، وتعرضت للسبي، ثم تحررت جزئيا، ثم عادت إلى السبي مرة أخرى كمقدمة للحرية الكبرى، ثم الحرية، لتموت وهي متمتعة بكامل شهوتها في الحكم والسلطان.

1