أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
قراءة في المجموعة القصصيةعطر الخيانة لعماد الورداني:جدل الرغبة أو السرد المبتلى بالتفكير!!
بقلم : عبد الإله حبيبي ... 13.06.2015

تبدأ المجموعة القصصية حكاياتها بسؤال الميلاد، أو قلق الخروج إلى الوجود من رحم الجبال، التي هي تمثيلات لأساطير قام الإنسان بحياكتها في بداية الخلق، أي خلال لحظة انبلاج اللغة وبداية الكلام. فمن بين جبلين متخيلين ينطلق السرد ليتدفق في توصيف ألم النزول إلى العالم، وما يرافقه من غربة وبعد وغرابة تمس الكيان الجوهري للإنسان. إن الكاتب يحكي عن مولد كيانين يتفقان في الطبيعة ويختلفان في شكل حضورهما في حياة الإنسان، أولا الحقيقة التي لا يمكن نهائيا اللحاق بها، وثانيا الحب الذي كلما تخيلنا أننا في أحضانه إلا واستحال سرابا.
يقترح الكاتب وسيلة لمطاردة هذين المنفلتين منا، إنها حاسة الشم التي بها يأتي العالم إلينا وهو مبدد في الروائح المتعددة، المتشابهة أحيانا، والمتناقضة في أحايين كثيرة. ونصوص المجموعة يمكن النظر إليها باعتبارها تمرينا جماليا على استعمال ملكة الاستنشاق حتى لا نقول الشم كحاسة فيزيولوجية فقط؛ استنشاق الروائح التي تحمل في عمائها روائح البدايات، أي أسئلة اللقاء الأول بالعالم كهوية وموطن وفي الأخير كسجن داخل انزياحات اللغة.
لا يبدأ الحكي في هذه المجموعة بدون المرور من الولادة الميتافيزيقية إلى الولادة البيولوجية التي تحتل فيها الأمومة مساحة عالم آخر فيه يُصفع الكائن البشري بقدر الانتماء لإنسانية ستحن دوما لهذا الحضن العجيب، الذي يقتطع من جسد أنثى ليخرج للحياة مؤنثا أو مذكرا. في هذه الولادة الثانية يخصص الكاتب حكاية للحديث عن أن الجنين الذي هو في بطن الأم، عليه أن يكون ذكرا، السلطة الأبيسية قررت ذلك، انتهى زمن النسل الذي تفاقم إناثا، تحكم على القدر أن يمنحها رجلا، هوية من جنسها، مضادة للأمومة، مناقضة لها، بل مبرمجة لأن تقضي عليها في العالم اللاحق.
الولادة الثالثة في هذه المجموعة القصصية المسكونة بقلق السؤال المتعالي هي ولادة أنثربولوجية، فالبطل الذي كان مقررا له بعد أن يتحرر من أحشاء الأمومة أن يستأنف نشيد الذكورة المفرطة في تقديس أوهامها؛ أي إعادة إنتاج السلطة الأبوية المريضة بذاتها النرجسية، سيصبح عكس هذه الانتظارات، بطلا متمردا على هذه الرغبة، سينحاز لجسد الأمومة، سينحشر في طقوسها وأسرارها السحرية ليطهر كيانه من لوثات الروائح الجافة للأبيسية المنهارة. من بخور الأمسيات الطقوسية سيولد مخضبا بحناء الأم المتحكمة في مفاتيح الخطاب المتصل بالغيب. إذا كان الاب يملك مفاتيح البيت والغرف والنوافذ التي تؤدي إلى مسكنه لتعزل نساءه عن الخارج، فالأم ستمتلك في هذا المتن الحكائي مفاتيح المقدس، والغريب والعجيب الذي يسكن الأنثى المحاصرة والمحتجزة بين الرغبة والجدران. الأم هنا ستفتح ثغرة في عالم الذكورة لتطل من خلالها على اللانهائي، أي المطلق الذي هو الأشد فتكا بسلطة ذكورية فانية ومزيفة المصادر.
سيظل الحكي يميط باستمرار اللثام عن الروائح المنبعثة من أحلام الأمومة التي تُبدِّد الألم في وصلات من الجذبة والأنين والغمغمات المختنقة بالمنع والوصاية. في هذه الولادات المتعددة تظل الروائح حاضرة كمعالم بها تعرف الكاتب على ذاته والذوات التي تبحث عن سجنه أو تحريره. سنسافر إذن في حكايات لا تستكين لما هو مألوف في التقليد السردي، أي الحكي عن حيوات وشخوص ووقائع وعقدة وذروة وحل، هنا أسلوب جديد في السرد، مغامرة نوعية يسائل فيها السرد نفسه، يقص على القارئ ذاكرة من الألم، لكنها سرعان ما تنتفض في وجه النسيان بصيغة السؤال، لهذا كانت قصص القاص عماد الورداني مسكونة أو مبتلاة بالسؤال الوجودي الذي منحها عمقا فلسفيا، وبعدا كونيا بنكهة وجع مغربي ورمزية ثقافية تنفتح على تأويلات متعددة.
في خضم البحث عن الروائح المضادة للسلطة المطاردة لجسد كاتب يقاوم من أجل أن يحرر جسده الذي هو استمرار لجسد أمه المعطوب، ستصادفه روائح أخرى يكون فيها الحب هو الرائحة الأكثر حضورا في هذا المسار، لقاء الكاتب بالحب في أمكنة توصف بالبعيدة عن البلد أو موطن الولادات الأولى، يجعلنا نفكر في أن الحب ولادة أخرى برائحة قوية، لكن في قارة جديدة مشبعة بالتاريخ وروائح البحر والحضارة الأيبيرية القريبة من مسقط رأس الكاتب نفسه. الحب يؤسس به الكاتب لمجال الرغبة المشتعلة التي تذكره بالكيان المشاغب فيه، أي بذكورته البيولوجية ونزواتها البدائية لكن ارتأى الكاتب إلا أن يحول هذا اللقاء إلى إعادة الالتحام برائحة الأمومة الشاردة في أجساد أخرى تحقق الرغبة لكنها لا تمنح الدفء والسكينة. الحب لقاء بالمسكوت عنه في جسد الأم التي تداري رغبتها بالطقس الصوفي، لقاء بالجسد المتحرر من كل الأقنعة، لقاء بأنثى كاملة تتحدث بدراية كبيرة عن المتعة والقبل وأنواعها ودلالتها، في هذا اللقاء بصاحبة «حذاء الرافيا» تتحرر الروائح من الزيف، تصبح حقيقية، صادمة أصيلة، لكن في مكان لا يسكنه الغيب الذي يحرر المرأة في بلاد الحريم كحل لكل الألم الذي يستبد بكيانها.
المرأة الأجنبية صاحبة حذاء الرافيا هي النقيض المقابل للأم والكيان المفجر للرغبة والكاشف لرائحة الوصال بين جسدين من طبيعتين مختلفتين. في هذه الحكاية يكتشف الكاتب ذاته التي بددتها الولادات السابقة وأضاعتها الأبوية في مسارات غريبة عنها. لكن في النص الأخير المعنون بـ»أنت هو أنت»، وبعد العودة الجديدة لرائحة الأمومة لعلاج الجسد من مرض الخوف من أن يصبح هو ذاته، ستحدث الولادة المستقلة للبطل، ولادة من تاريخ الألم والنفي المستمر لوجوده وهويته، بحيث سيجد أنثى من موطن الأم، لكنها ليست فقط رغبة جسدية مشتعلة كصاحبة الحذاء، وليست أيضا صورة لأم مسلوبة الإرادة، بل هي وجه عاشق وقلب خافق، ستكون هذه الفتاة «أمل» هي الحاضنة للولادة النافية لكل الولادات السابقة، ستقيم بجوار الكاتب لكي تساعده على الخروج من مخاض الضجر إلى فعل الكتابة. ولعل الكتابة هي التي سوف تحتل مكان كل الروائح السابقة لتغدو هي والرغبة الثنائي الجديد في رسم معالم وجود ناضج للكاتب.
«عطر الخيانة»: عماد الورداني منشورات اتحاد كتاب المغرب

روائي مغربي
1