أحدث الأخبار
الأربعاء 27 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الكتابة بالأنف… قراءة في «عطر الخيانة» لعماد الورداني!!
بقلم : نبيلة العكال ... 17.04.2015

عرف العالم تحولات كثيرة، أسهمت في زعزعة قناعات المثقف وثوابته، فبعد أن كان التقدم العلمي والحضاري رهانا على المستقبل، أصبح كابوسا ولعنة، وبعد أن كان التقدم المادي مطلبا ملحا، أصبح آلة بغيضة تطحن أرواح البشر، لذا غابت الحميمية والعواطف الدافئة، وغلبت المصالح والأنانية، فاغترب الإنسان، وانسحقت روحه، ودخل في دوامة القلق البغيض، ينتظر ما لا يجيء كما فعل صامويل بيكيت في En attendant Godo التي تجسد معاناة إنسان العصر، الذي تأزم وتشظى، وأحس بضآلته وبضياع هويته التي حاول مرة أخرى أن يجدها مع ميلان كونديرا في L’identité، فكانت هذه الإصدارات التي تجسدت في الرواية والمسرح والقصة، فنا استطاع التعبير عن قلق المرء وغربته، وإحساسه الحاد بأزمة روحه وفكره.
يسعى السرد بتنويعاته إلى تقديم المعاني الكثيرة والمعقدة، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تصوير أصغر مساحة من حياة الإنسان. فكانت مجموعة «عطر الخيانة» للكاتب المغربي عماد الورداني من بين النصوص الإبداعية، التي كان مؤلفها جريئا في التعبير من خلالها عن هموم الإنسان العصري وأزماته النفسية والروحية؛ لأنه يرى أن الموروثات المألوفة السائدة في حياة هذا الفرد، هي المسؤولة عن حالة الضياع التي وصل إليها شخوص هذه المجموعة.
يضم هذا المؤلف بين صفحاته مجموعة من القصص القصيرة، التي يصل عددها إلى سبع عشرة قصة لعماد الورداني. وتصدر هذه المجموعة عن وعي بالاتجاهات الحديثة للقصة القصيرة، فعلى امتداد المجموعة، شغل القاص نفسه باقتفاء آثار الروائح العديدة لإدانة الواقع المتمرغ في تراب الجهل والخرافة والموروثات الشعبية. فكان للهم الاجتماعي حضوره الكثيف عنده.
فحين تستوقفنا «قصة عطر» عند ذكريات البطل ـ الذي أنهى دراسته وسافر وجال ـ وهو يتذكر جغرافية موطنه المتعطر بشتى روائح الزهور والورود التي ورثها أسطوريا عن إيفريس «حامي الورود»، ثم ينحدر بعد ذلك إلى وصف بيته المحاط أيضا بالروائح والعطور الزكية « تنعش أنفي روائح تجعلني متأكداً أنني لا أحلم »، بل حتى قطارة قهوة أمه وهي تصنع « عطرا صباحيا..» تصبح مدرجة في مدارج العطور، ليرتقي في درجات عطور أخرى مصنفة تشبه إلى حد ما عطور قريته «انسقت إلى عطور عالمية …Azaro- Agua di gio عبثا وجدت رائحة إيفريس..». وحينا آخر، يدهشنا انقلاب الصورة، والبحث عن اليقين، وصخب الطقوس، كما في «كانت إلى جانبي»، حيث تعبق رائحة البخور« تنتشر في الجو طاردة أي رائحة قد تشوش على أنوف النساء »، ونشاهد تمايل الأجساد، وانهمار الدموع، وارتفاع الأصوات من أجل تصفية الأرواح الثائرة. وبطل هذه القصة مثلنا، يجلس مراقبا رفقة «شوق» حيث يصنعان طقسهما الخاص « فنصنع قداستنا » إلا أن أمه استوعبت ما يصيبه من أشواق، فحاولت أن تطهر قلبه، غير أن روح «شوق» ورائحتها القوية كانت قد سكنت روحه واستوطنتها « فكانت جذبة شوق ورائحتها أشد صلابة من قلب أمي»
أما في تجربته «حذاء الرافيا»، فيستمر الكاتب غارقا في دوامة الروائح، ونجد البطل شخصا مشاكسا يبحث عن رفقة امرأة وحيدة تملأ أنفه برائحة مختلفة عما اعتاده أنفه فـ«يسافر في رائحتها يكتشف أي امرأة هي، عطرها مختلف عما ألفته» لذا سيطوقه هذا العطر ويثمله إلى حد الصرع «رائحتها أسقطتني صريعا» هذه المرأة الجريئة التي أسرت اهتمام البطل وشاركته حكاياتها، فهي تمثل الفراغ والغربة اللتين يعيشهما الفرد، الذي يبحث عمن يصب فيه ذكرياته وماضيه.
وتستحوذ «شامة» على جانب من اهتمام القاص، إذ تشكل بؤرة السرد في قصة «رائحة الموت»، لهذا السبب عمد القاص بتقديمها للمتلقي، وجهد في توسيع رقعة ماضيها وتسليط الضوء عليه «تستعيد السنوات العجاف التي قضتها في قرية الساحل، كيف سلب المرض حياة الصغار والكبار..» وحاضرها « انزوت شامة تحت ظلها تستعيد ذكراها..» ومآلها إلى العزلة بعد تجربة مريرة طويلة «انهالت الدموع غزيرة تحولت إلى سبيل يأكل الموج، هل تبكي وحدتها أم فقدانها للآخرين» لقد رصدت هذه القصة الموت بكل تجلياته، بل إنها جعلت له رائحة، شكلت هاجسا، استطاع أن يكتسح أسوار بيت «شامة» المنيع، فاختطف بقرتها العزيزة التي استنشقت رائحته، التي ستتسرب في الأخير ببطء إلى جسد «شامة».
ويظل السارد ـ بصوت داخلي- يشارك في أحداث مجموعته، يروي ما حصل في تجربته الثورية والعاطفية بضمير المتكلم، كما هو الحال في «سأرفع يدي» النص الذي كتب بنفس أنثوي تدين فيها الساردة ذكورية المجتمع، وتصور استلابه لحريتها وحقوقها «وهناك علمني كيف أكره كل الذكور» فهنا يصور لنا القاص رؤية اغتراب البطلة في بيتها الذي عرفت فيه رائحة العبودية التي قادتها إلى الثورة، بل أن الحواس في هذه القصة تعرف عطلا، حين يصبح للصوت أيضا رائحة «صوت قد يفوح من فمي أو أنفي أو أذني» فلم تجد أمامها سوى الضياع بين أذرع غريبة علها توصلها إلى النسيان.
وتأتي قصة «عطر الخيانة» التي حملت المجموعة عنوانها، لتكشف عن رائحة جديدة، امتزجت فيها رائحة جسدين متحدين مع روائح العطر، عطر الخيانة، وهنا نقف لحظة أمام هذا التعبير، لنتساءل: خيانة من؟ الجسد، الروح، القلب أم الحواس، خاصة الأنف المتمرس والمتمرن في تمييز أنواع العطور «ولم يكن أنفي بلوريا، كان حساسا يعرف متى يضع المتاريس لروائح قد تتسعه.. وأنفي الحساس يتعقب آثارها، يحيد عن الروائح المزيفة…». إننا بحق أمام خبير في العطور، بل في كل أنواع الروائح. لقد ذاق بطلنا وتمرغ في عطر عشيقته، بعد أن كان ملتزما لا يعرف غير النهار، ولا يتواصل إلا مع روحه ونفسه التي ائتمنته عليها، فضعف أمام عطر معلنا بصراحة مطلقة «من أجل عطرك أنا مستعد للخيانة» هذا العطر الذي سكن الروح و الجسد أيضا، ولم يعد يتنفس إلا به وعبره، بل سيعلن عبر أنفه حين سيغيب هذا العطر الحداد موشحا بالسواد.
ويعود بنا القاص في «سيدي المخفي» بلغة سردية، يشارك أيضا فيها بصوته، إلى ذكريات الطفولة حين تصبح الأحاجي المروجة حقيقة يمتزج فيها الواقع بالخيال، اللذان أصبحا وحدة متكاملة، يصعب التمييز بينهما، ويجعلنا ذلك نلتفت حولنا كي لا يأخذنا هذا الذي يلقب بـ»سيدي المخفي» لقوته وقدرته الهائلة. في هذه القصة، تتوقف مسيرة الروائح لحظة عن الانتشار، ويظهر البطل وأصحابه بصورة الكبار وهم يمثلون لعبتهم «قائدنا يدفعنا لخوض حروب كثيرة» وكأن القاص ينتقد ويدين عدوى الحروب التي طالت الصغار أيضا، ونقلها من مجالها الموسع إلى مجال ضيق شيئا ما «الأزقة والدروب» حيث تنتهي بغروب الشمس. ليتوقف البطل مع صديقه «سالم» يتأملان مكانا فانتازيا تحوم حوله الجنيات، وينام بداخله «سيدي المخفي» هذا الذي يأخذ «سالم» ثأرا لما فعله هو وصديقه به، إلى درجة تظل بعد أن تنتهي القصة، ويأخذ البطل دور «سالم»: هل صحيح أخذ «سيدي المخفي» «سالم»؟ ألن يعود؟ هل هذه حقيقة؟ أم حلم؟ ففي هذه التجربة يمتزج فيها الحقيقي بالخيالي، والواقعي بالحلم، والممكن بالمستحيل.
وفي مثل هذا الواقع الرمادي المليء بالتساؤلات والدهشة التي تتركنا فيه هذه القصة، ينفتح القاص في «السيجارة التي بداخلك لا تنطفئ» على واقع قاتم آخر، يثقل كاهل البطل، وتعود هنا الرائحة مرة أخرى، فتنتشر لتخطف طفولة البطل، لترميه بشراسة في عالم الكبار، إنها رائحة السيجارة التي سكنت بداخله «وأنت تستنشق بقايا دخان الرجل» وأصبحت شيطانا «السيجارة في ذهنك تتجسد في صورة شيطان».على هذا النحو يدين الكاتب واقعه الممثل في التدخين ويحتج احتجاجا عنيفا على ضعفه و إدمانه الذي وسمه بصفة الشراهة «اقتنيت علبا كثيرة، دخنتها بشراهة».
ويتردد مرة أخرى صوت الاحتجاج، وهو صوت من نوع آخر لم نألفه، إنه صوت وليد يخرج من بطن أمه أثناء المخاض في قصة «ولادة اضطرارية» التي يتسع فيها أفق التوقع عند القارئ الذي اعتاد نسقا سرديا أو واقعيا معينا – فيجد نفسه يختبر إحساس هذا البطل «الوليد» الذي أدان منذ ولادته ذكورته التي فرضها المجتمع وبجلها وأصبح يهلل لها. ففي البداية تتغلب الصفة الذكورية عليه، فيتفاخر بها «رائحة الفخر عطرت جسدي الناعم» لكنه سرعان ما سيسأمها ويدينها «بينما أمنعت رقصة الحروف المشوهة في الهروب» إلى درجة تمنيه لو أنه لم يولد «لعنت صراخ أمي الذي أضعفني وجعلني أرخي حبالها السرية والمعلنة، وأخرج لأكون غير ما أردت أن أكون».
ويستوقف القارئ في قصة «وجها لوجه» هذا الحضور القوي للمرأة التي لم تنفرد بذاتها، وجاءت شريكا للرجل، يتعلمان معا لغة العواطف والأحاسيس، ويتبادلان أصناف القبل بجميع جنسيات العالم. ولا يعني هذا التلاحم أن هاجس الجنس والعشق كان شاغل الكاتب، بل نجده معنيا به، لا برسم الملامح الجسدية للمرأة، لأنها عنده هنا جاءت حاجة وهاجسا ينقذ البطل في غربته « في اللحظة نفسها وأنا أسافر في غياهب بعيدة لا ساحل لها، أنقدتني من تيهي» فيتحول البطل من فأر تجارب إلى رجل يسعى إلى إطفاء العواطف التي أشعلت أوصاله «تحولت من فأر إلى رجل إطفاء لا يتقن عمله ».
في التجارب الأخيرة من هذه المجموعة، يواصل القاص رحلته في استكشاف العطور واستنشاقها، ويجعل من العنصر الأنثوي بؤرة الحدث. ففي « جاذبية وردة» تفقد هذه الوردة التي تحيل على وضع المرأة في المجتمع كل مظاهر الجاذبية، بل حتى عطرها لم يعد له تلك القوة التي تبهر وتسحر الحواس، لذلك تظل تنتظر اليد التي ستحنو عليها وتقطفها، لكن لا أحد يهتم بها «تبحث عما يبرر وجودها بدون خوف…الوردة التي لم تكتمل وحدها في العراء لا تجد شاعرا يمدحها..» إنه الإهمال واللامبالاة اللذان يؤديان إلى الضياع والموت، رغم تشبتها بالحلم ـ الحياة- الذي لم يتحقق.
وفي «لحظة مستعادة» يعيد البطل حريته ولحظته الضائعة التي سلبت منه، بعد أن كان يتمرغ في أوحال الكآبة التي زرعت داخله زوبعة تسكنها امرأة بانتصار، لكنه يقرر أن يهزم ضعفه أمام هذه المرأة ويصبح هو المنتصر، وإلا أصيب بالجنون. في هذه القصة، يعلن القاص عن القطيعة التي تصيب الزوجين حين يريد أحدهما أن يكون الآسر والمنتصر، فتبرد العواطف وتصبح مادية لجثة لا تلج الروح « حرصت أن تبدي مفاتنها..» لذا كان لابد له من أن يكسر هذا السحر أو أن يظل فيه إلى الأبد « لم أندم على فقدانها، لأنني استعدت لحظتي».
ويدين القاص في «رائحة لا يقبلها أحد» واقعه الظالم، ساعيا إلى الخلاص منه وتناسيه، متوسلا بالتجربة الصوفية، وما عرف عنها من فناء الروح في الآخر، وإخلاصه له، واتحاد معه، فتطوق جسده روائح البخور «كانت الأبخرة المنبعثة من المجامر رؤيتي» وينطلق في رقصة غريبة إلى أن «يسقط مغشيا عليه…» و«دماؤه الملوثة تسيل» إنها عملية تطهيرية برائحة فريدة يوصيه الشيخ بالحفاظ عليها.
يهدف القاص في هذه المجموعة إلى إبداع نص مفتوح يستثير القارئ من خلاله تضليله وتشكيكه بما يحدث، ولعل هذا وراء ما شاع في التجربة الأخيرة «حلم مؤجل» من حلم، أسهم في تداعي الحبكة، كما أسهم في اختفاء الحدث بالمفهوم التقليدي، إذ استعان بتقنية الحلم «يصعد الحلم متاهات بعيدة » وجعله التيمة التي تسيطر على أحاسيس البطل، الذي أصبح يعيش فيه وبه إلى درجة الهذيان، بل حتى تلك الرائحة النتنة «تختلط بالجوارب النتنة، وبقايا الخبز وعلب السردين الفارغة، لتمنحها رائحة » لم تستطع أن تنتشله من ذلك الفراغ، والذي دفعه إلى الخروج إلى الواقع هو الحلم الذي يبحث عنه «استمع إلى أحاديث الناس، عاش أحلامهم… أيقن أن نصوصه تعيش خارج الشقة».
إن اختراق القاص لبنية الحدث الواقعي في مثل هذه التجارب، حيث لم تعد الأحاديث خاضعة لسياق منطقي، يجعل من القارئ منتجا للتجربة أيضا، لا مجرد قارئ متلق سلبي استهلاكي، ويجعل من النص أفقا مفتوحا لاحتمالات دلالية ثرية.
إن نصوص المجموعة تخاطب حاسة محددة وهي الأنف، وكأن الكاتب رسم تفاصيل نصوصه وهو يراقب بأنفه حركية ما يجري في العالم.

كاتبة مغربية
1