أتكون محض مصادفة غريبة إنني التقيت به, الآن, في نفس المكان الذي شاهدته فيه أول مرة؟
لقد كان مقرفصاً هناك؟ كأنه لم يزل كذلك حتى اليوم: بشعره الأسود الخشن, وعينيه اللامعتين ببريق رغبة يائسة, منكباً على صندوقه الخشبي يحدق إلى لمعان حذاء باذخ..لقد استطاعت صورته أن تحفر في عظم رأسي قبل عام واحد, حينما رأيته في تلك الزاوية بالذات, لا لشيء غير عادي, سوى أنني ـ أنا نفسي ـ كنت احتل هذه الزاوية قبل عشر سنوات, حينما كانت المحنة على أشدها, وكانت طريقتي في مسح الأحذية تشابه طريقته إلى حد بعيد, كان الحذاء بالنسبة لي هو كل الكون:رأسه وكعبه قطبان باردان, وبين هذه القطبين كانت تتلخص دنياي.
وقبل عام, حين مررت به, قاءت شفتاه عرضا آليا دون أن تنظر عيناه إلى الحذاء:
ـ أستطيع أن أحوله إلى مرآة، يا سيدي..
وبدافع من رغبة خاصة, تعوضني عن شهور طويلة من الأسى, ركزت قدماً على حدبة الصندوق حيث تيسير لي أن أشاهد خطاً عريضاً من العرق يبلل ظهر قميصه الأزرق المتسخ, وكانت عضلات كتفه الضامرة الصغيرة تنقبض وتنبسط, وكان رأسه يهتز بانتظام..
ـ هذا حذاء رخيص..
لم أحس الإهانة على الإطلاق, فلقد كان شعوري حينما كنت أشاهد حذاء رخيصا يشابه شعوره, لكني لم أكن اعبر عنه بهذه السذاجة, كان الحذاء الرخيص يشعرني باقتراب غامض بيني وبين العالم.. ورغم ذلك, فلقد رغبت في تغير الحديث..
ـ كم عمرك؟
ـ إحدى عشر سنة..
ـ فلسطيني؟
هز رأسه فوق الحذاء, دون أن يجيب, أحسست بأنه يخفي شعوراً بخجل صغير..
ـ أين تسكن
ـ في المخيم
ـ مع أبيك؟
ـ لا, مع أمي..
ـ أنت طالب أليس كذلك؟
ـ نعم.
ونقر بإبهامه على النعل, ثم طالعني بعينين صافيتين, باسطاً كفه الصغيرة تجاهي, وأحسست بخيط رفيع من الأسى في حنجرتي, وتنازعي شعوران حادان: هل أعطيه أجرته فحسب؟ أم أزيد عليها؟ كنت حينما أعطى اجري حسب استحقاقي أحس شرف عملي, ولكنني حين كنت أوهب هبة ما كنت اقبلها وشعور بالإهانة يتراكم فوق سعادتي في أنني كسبت اكثر...
لقد طواني المنعطف مبتعدا عن نظراته وهي تلسع ظهري ذلك أنني أعطيته استحقاقه فحسب...وحينما نظرت خلفي كان قد صرف نظره عني وتابع تحديقه إلى ارض الشارع راغبا في اصطياد حذاء آخر..
ولكن صلتي "بحميد" لم تنته بانتهاء هذا المنظر.. فبعد اقل من شهر واحد عينت مدرساً في مدارس اللاجئين, وحين دخلت إلى الصف لأول مرة شاهدته جالسا في المقعد الأول.. كان شعره الأسود الخشن اقصر من ذي قبل, وكان قميصه المهترىء مجرد محاولة فاشلة لستر عريه.. وكانت عيونه مازالت تلتمع ببريق رغبة يائسة..
لقد سرني انه لم يعرفني, ورغم انه من الطبيعي أن ينسى ماسح الأحذية زبائنه العابرين فلقد كنت أخشى من كل قلبي أن يتذكرني, ولو فعل لكان وجودي في الصف حرجاً لا مهرب منه.. وطوال درسي الأول كنت أحاول عبثاً أن انتزع بصري عن وجهه المكتسي بتحفز مشوب بقلق صغير..لقد كان الصف كله مزيجاً من عدد كبير من أشباه حميد , صغار ينتظرون بفارغ الصبر صوت الجرس الأخير كي يشدوا أنفسهم إلى أزقة مترامية في مجاهل دمشق الكبيرة يصارعون الغروب من اجل أن يكسبوا العشاء.. كانوا ينتظرون الجرس بتوق جائع كي يتوزعوا تحت السماء الرمادية الباردة, كل منهم يمارس طريقته الخاصة في الحياة... وكانوا يعودون, إذ يهبط الليل إلى خيامهم أو إلى بيوت الطين حيث تتكدس العائلة صامتة طوال الليل إلا من أصوات السعال المخنوقة.. كنت أحس بأنني ادرّس أطفالاً اكبر من أعمارهم.. اكبر بكثير, كل واحد منهم كان شررا انبعث من احتكاكه القاسي بالحياة القاسية.. وكانت عيونهم جميعهم تنوس في الصف كنوافذ صغيرة لعوالم مجهولة, ملونة بألوان قاتمة, وكانت شفاههم الرقيقة تنطبق بإحكام كأنها ترفض أن تنفرج خوف أن تنطلق شتائم لا حصر لها دون أن يستطيعوا ردها..كان الصف إذن عالماً صغيراً .. عالماً من بؤس مكوم لكنه بؤس بطل..
وكنت أحس بينهم بشيء من الغربة.. وأورثني هذا الإحساس رغبة جامحة في أن أحاول الوصول إلى قلوبهم قدر استطاعتي..
كان حميد طفلاً متوسط الذكاء, ولكنه لم يكن يدرس بالمرة.. وكنت أحاول باتصال أن ادفعه ليدرس ولكن هذا الدفع لم يكن يجدي..
-حميد, لا تقل لي انك تفتح كتابا في بيتك... انك لا تدرس على الإطلاق..
-نعم يا أستاذ
-لماذا لا تدرس ؟
-لأنني أشتغل..
-تشتغل حتى متى ؟
وتطل العيون الواسعة الحزينة فيما تأخذ الأصابع الصغيرة تدور باضطراب طاقية متسخة.. ثم يهمس صوت بائس:
-حتى منتصف الليل.. أستاذ.. إن الخارجين من دور السينما يشترون كعكي دائما إذا انتظرتهم..
-كعك؟ أنت تبيع كعكاً ؟
ويرد صوته بخجل هامس:
_ نعم يا أستاذ.. كعك..
-لقد كنت أظن.. لا اذهب إلى مكانك.. اذهب!
وطوال تلك الليلة, كنت أتصور المسكين الصغير يدور حافياً في شوارع دمشق النظيفة ينتظر خروج رواد السينما.. كنا في تشرين, وكانت السماء تمطر في تلك الليلة.. وتصورته واقفاً في زاوية ما راعشاً كريشة في زوبعة.. ضاماً كتفيه قدر جهده إلى بعضهما, وداساً كفيه في مزق ثوبه محدقا إلى صحن الكعك أمامه.. منتظراً شخصاً ما يخرج من القاعة جائعاً كي يشترى كعكة.. شخصين.. ثلاثة.. ويتسع فمه بابتسامة, يائسة ويحدق إلى ميازيب تشرين من جديد.
وفى اليوم التالي.. شاهدته في الصف, كان النعاس يأكل عيونه, وكانت رأسه تنحدر على حين فجأة إلى صدره, ثم ينهضها بعجز.
-أتريد أن تنام يا حميد ؟
-كلا يا أستاذ..
-إذا أردت أن تنام فلسوف آخذك إلى غرفة المدرسين..
-كلا يا أستاذ..
ولكنه كان يبدوا منهكاً بصورة حادة, وهكذا, اقتدته إلى غرفة المدرسين, كانت غرفة عارية إلا من صورة رسمها مدرس الرسم الفاشل ببقايا ألوان الطلبة، وكانت المقاعد الثقيلة منثورة تحت الجدران الرطبة وحول مائدة صغيرة تكدست عليها أكوام الدفاتر والكتب, لقد وقف حميد في باب الغرفة, مستشعرا كما يبدوا إحساسا غريبا, كان قلقا بعض الشيء, وكانت طاقيته تدور بين أصابعه الصغيرة, وعيونه تتناوب التحديق إلي, والى الغرفة..
- نم على أي مقعد, سوف نضع حطبا في المدفأة.
تحرك بطيئاً إلى المقعد القريب, وجلس فوقه نصف جلسة, فيما إلتمعت عيناه بسعادة الدفء.
-هل بعت كثيراً من الكعك ليلة أمس ؟
-ليس كثيراً..
كان في صوته رنة أسى عميق, وكان وجهه يرتجف:
-لماذا ؟
-نمت, نمت أثناء انتظاري انتهاء الفيلم, وحينما صحوت كان كل شئ قد انتهى.
-نم الآن, سوف أعود إلى الصف.
ولكنني لم أعرف كيف أتممت درسي, كنت أحس بقلق غريب, وكنت أخشى أن أنفجر بالبكاء أمام الطلبة.
وفى الفرصة كان حميد يغط في نوم عميق, وكان أنفه الصغير مازال مزرقاً من فعل البرد إلا أن الدم كان قد بدأ يرد إلى وجنتيه. لم يسأل أحد من الأساتذة أي سؤال, إذ أن حوادث كثيرة من هذا الطراز كانت تحدث كل يوم, واكتفى الجميع برشف الشاي صامتين.
وطوال الأيام التالية كنت أبحث عن طريقة أدخل فيها إلى حياة حميد دون أن يمسه فضولي, وكانت هذه العملية صعبة للغاية, إذ أن كل طالب في مدرسة النازحين كان يصر على الاحتفاظ بمأساته الخاصة, وضمها بعنف في صدره..كأنما كان هنالك شبه اتفاق مشترك على أن هذا واجب وضروري..
إن الأشياء الصغيرة, حينما تحدث في وقتها, يكون لها معنى أكبر منها, اقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير..
ففي أحد الأيام أتى أخي الأصغر إلى المدرسة يحمل طعام الغداء لي, وحينما أعلمني خادم المدرسة بذلك, أرسلت حميداً إليه كي يأخذ منه أوعية الأكل. وعندما عاد حميد أحسست بأنه أهين بكيفية أو بأخرى, ولذلك طلبت منه أن يراجعني في غرفة المدرسين, أثناء فرصة الغداء.
دخل حميد غرفة المدرسين قلقا كالعادة, كنت وحيداً, ورغم ذلك فان قلقه لم يبارحه, كانت أصابعه تدور طاقيته باضطراب, وكانت عيونه تلتمع كعادتها..
ـ حميد, هل أعجبك أخي؟
ـ انه يشبه أخي..
لم أكن أتصور أن الموضوع سوف يطرق بهذه السرعة...ولذلك فلقد سألت متعجباً:
ـ أخوك؟ أنني اعرف أن لك أختين فحسب..
ـ نعم. ولكن أخي مات..
ـ مات؟..
أحسست باضطراب أنا الآخر, فهذا الصغير يضم صدره الضامر أسرار كبيرة..
ـ كان أصغر منك..ها؟
ـ كلا..أكبر مني..
ـ كيف مات؟
ولكن حميد لم يجب, وشاهدته يغالب دمعاً غلبه في نهاية الأمر, وامتلأ وجهه الصغير بدمع غزير أخذ يمسحه خجلاً بعض الشيء...
ـ حسناً ..لا تتكلم ..أتعرف إن أخي أنا الأخر مات؟
ـ صحيح؟
ـ نعم.. لقد دهسته سيارة كبيرة..
كنت أكذب..ولكنني رغبت في أن أشارك أحزان الصغير بكيفية ما..وشعرت بأن كذبتي أخذت طريقها السوي إلى رأسه إذ التمعت عيناه بأسى مفاجئ ومضى يحكي ببطء:
ـ أخي لم تدهسه سيارة...لقد كان يعمل خادماً في الطابق الرابع..وكان سعيداً..
كان حميد يستخدم بذراعيه كي يوضح كلامه وكانت دموعه تنساب دون أن يشعر..
ـ لقد أطل في قفص المصعد فقطع المصعد رأسه وهو يهبط..
ـ مات؟
كان السؤال سخيفا, ورغم ذلك فلقد أحسست بضرورته من أجل أن أهدهد قشعريرة مفاجئة تكلبت في جسدي..وهز حميد رأسه ثم سأل فجأة:
ـ هل قطعت السيارة راس أخيك؟
أخي؟آه..نعم..نعم لقد قطعت رأسه..
ـ هل حزنت عليه كثيرا؟
ـ نعم..
ـ هل تبكي عندما تتذكره؟
ـ ليس كثيراً...
ـ قل لي يا أستاذ... هل لك أب؟
ـ طبعا , اعني نعم, لماذا؟
خطا نحوي وسأل بلهفة راعشة:
ـ هل هو بخير؟
ـ نعم..لماذا؟..
تكهفت عيناه بأسى فاجع وشعرت بأن للمأساة ذيولاً تعصر رئتيه...ولكنني كنت على يقين بأن حميد سوف لن يجيب على أي سؤال...لقد انطبقت شفتاه بإحكام مصر..ويمم عيناه شطر الحائط العاري...كان بنطاله قصيراً ممزقاً وكان قميصه الأزرق متسخا مهترئاً...وحين شاهدني أطالعه باستغراب لململم نفسه واحمر وجهه قليلا وازدادت سرعة الطاقية الصوفية الدوارة بين أصابعه.
لقد بدأت مشكلة حميد تدخل شيئاً فشيئاً فيما بعد, إلى حياتي.
كنت لا أستطيع على الإطلاق أن أكون عابراً في حياته, متفرجاً إلى مأساته, ومن بين عشرات المآسي التي حفل بها صفي لم تجذبني إلا عيون حميد البائسة اليائسة..صرت أفكر فيه على الدوام.وكثيراً ما كنت اقرر أن أبدأ بنفسي, خارج المدرسة, بحثاً متصلا حول حياة حميد..بل لقد فكرت يوما في أن ابحث عن طريقة تجعل أمر مساعدته ماليا شيئا طبيعيا لا يحمل رائحة الإهانة..ولكن كل شيء كان يدور مجهدا حوالي, وكان ينتهي إلى الفشل أمام العيون التي تحتوي, إلى جنب الأسى , شيئاً كثيراً من الكبرياء والتعالي..
إلا أن علاقتي بقضية حميد أخذت تخفت شيئاً فشيئاً بعد سلسلة من الأحداث الصغيرة جعلتني أحمل نقمة غريبة على هذا المخلوق الصغير, المقعد, المكوم فوق أسرار, لا تنتهي إلي لتبدأ, ولا تبدأ إلا لتستمر..فلقد حدث ذات يوم أن شكا إلي حميد أستاذاً زميلا أهانه إهانة بالغة.ولقد قال حميد, يومها, وهو يحدق إليّ مكشراً بعض الشيء:
ـ إنني يتيم...وإلا لكنت استدعيت أبي..
ـ هل..أبوك ميت؟..
قال بخجل وهو يطأطئ رأسه:
ـ نعم..
ـ لماذا لم تقل لي ذلك من قبل؟
لم يجيب حميد على سؤالي واكتفى بان هز رأسه باتصال., وصمت:
ـ أنت الذي تصرف على عائلتك إذن؟
ـ نعم..أنا الذي اصرف..أن أمي تكسب قليلا من تنظيف مخازن وكالة الغوث..ولكنني أنا اكسب اكثر..
وصمت حميد قليلاً ثم اندفع قائلا وهو يبسط كفيه الصغيرتين مستعينا بحركاتهما:
ـ إنني اشتري كل ثلاث كعكات بعشرة قروش..أبيع الكعكة الواحدة بخمسة قروش..
ـ أما زلت تنام وأنت تنتظر خروج رواد السينما؟..
ـ كلا..لقد تعودت السهر..
هل من الضروري أن يعترف المدرس, بين الفنية والأخرى, بأنه يلجأ إلى الغش كي يعين طالباً مسكيناً على النجاح؟.لقد كنت أنا افعل ذلك..كانت علامات حميد جيدة على الدوام رغم انه كان متوسط المستوى, لكني لم أشعر قط بعدالة علاماتي بقدر ما كنت اشعر هذه العدالة حينما كنت أسجل علامات حميد..
ولكن القضية لا تتحرج هنا على الإطلاق, لقد بدأت تتحرج فقط حينما أخذت اشك في سلوك هذا "الحميد" وفي كلامه لي, بل وفي دمعه أيضاً..
وفي عصر يوم قائظ من أيام نهاية العام نقل ألي تلاميذ الصف أن خادم المدرسة ضرب حميداً ضرباً قاسياً حينما كان يحاول عبور حاجز المدرسة هارباً, وحينما استدعيت الخادم إلى غرفة المدرسين كي أعاتبه وجدتني أواجه رجلا يتمتع بقناعة غريبة بأنه إنما فعل عين الصواب, ضاربا عرض الحائط بكل مفاهيم التربية النموذجية التي حاولت أن أوضحها له..حينذاك لم أجد بدا من أن أواجهه بمنطقه الخاص:
أليس حراماً يا أبا سليم أن تضرب يتيماً؟
جأر أبا سليم مادا رأسه تجاهي وقد عقد ذراعيه على صدره:
- يتيم؟ إن أباه لوح, أكتافه تملأ الدنيا..
- حميد له أب؟
سألتُ متعجباً.. فيما أتاني نفس الجواب مكرراً بصلف:
- إن أباه لوح.. تملأ أكتافه الدنيا..
أحسست بإهانة تصفع صدري..وساءني أن يكون الصغير قد بنى عطفي عليه فوق أكاذيب منحطة.. شعرت بأنني لم أكن سوى مغفل طيب القلب وان كل العلامات التي جعلتها تخطو من فوق ضميري بارتياح تضحك في وجهي الآن بشراسة..
وطوال الطريق إلى بيتي كانت كلمات أبى سليم تعرك رأسي ويدوي صداها في حنجرتي..وكنت أحدث نفسي زاعماً لها أن اولئك الملاعين الصغار هم في الحقيقة أكبر بكثير من أعمارهم وإن الخطأ كان في أنني عاملتهم على أنهم أطفال فحسب, لقد تغاضيت عن كونهم رجالاً صغار يستطيعون الوصول إلى ما يريدون بأية طريقة تخطر على بالهم..وان لعبة حميد على أستاذه ليست في نظره سوى لعبة بائع كعك على زبون نصف سكران تنتهي بشراء كعكتين, أو كعكة بسعر كعكتين ..
ورغم هذا الكلام, فأنني لم استطع أن أتخلص من شعوري الحاد بأنني أهنت على يد حميد إهانة بالغة, وأخذ تفكيري يسير في الطريق الذي يؤدي إلى إيجاد انتقام ما..أنني اعتقد الآن بان القضية تافهة, وان تفكيري كان اتفه, ولكنني لم اكن أرضى لحظتذاك بأن أتنازل قيد أنملة واحدة عن حقي في أن امسح الإهانة..
ولكن الذي حدث فيما بعد لم يستطع أن يهدهد غضبي, بل على العكس, لقد زاده أواراً على أوار..واستشعرت بعدها ألماً ممضاً يعتصر صدري بلا هوادة..فلقد قصّ علي طالب ثرثار كيف ماتت أم حميد قبل شهور طويلة بعد أن وضعت طفلة ميتة..
ووجدتني أغوص في دوامة من الأكاذيب كومها حولي هذا الحميد الصغير ببراعة لا تكاد تصدق...
أتت نهاية احتمالي في غداة يوم قائظ, كنت عائدا فيه من المدرسة فرأيته فجأة بعد غياب طويل..
أتكون محض مصادفة غريبة أنني التقيت به في نفس المكان الذي شاهدته فيه لأول مرة؟
كان مقرفصا هناك خلف صندوقه الخشبي الملوث بالدهان, يحدق إلى الشارع راغبا في اصطياد حذاء ما...فيما وقفت أنا نصف مصعوق أكاد لا اصدق أنني أرى بائع الكعك المزعوم, وأحسست بالإهانة تجترح حلقي, وحينما استطعت أن أميز ماذا كنت افعل وجدتني ممسكا بياقة الصغير أهزه بلا هوادة..وأفح باتصال:
ـ أيها الكذاب..
رفع الصغير عيونه أمامي مفتوحة حتى أقصاها, ممزوجا لمعانها بمعنى من معاني الخوف المفاجئ, ورأيت شفتيه تتحركان دون أن تستطيعا النطق بينما فشلت محاولته الصغيرة للخلاص من بين قبضتي..
وعدت اكرر وقد أحسست بشيء يهوي في صدري أمام الصمت اليائس:
-أيها الكذاب...
- أستاذ..
قالها باسترخاء رافعاً إصبعه بصورة آلية ونظر حواليه باضطراب ثم اعترف راجفاً:
- نعم يا أستاذ أنا كذاب, ولكن اسمع..
- لا أريد أن اسمع شيئاً..
ضاقت عيونه وخيل إلى أن دمعة توشك أن تسقط وعاد صوته يرجف من جديد:
-اسمع يا أستاذ..
- آيها الكذاب...آنت تعيش مع أمك... فليس كذلك أيها الكذاب ؟
-كلا يا أستاذ..كلا..إن أمي ميتة ولكنني لا أستطيع أن أقول..فحينما ماتت أمي طلب والدي منا أن لا نقول شيئاً عن موتها..أن نصمت..
تراخت قبضتي وسالت بضعة:
- لماذا ؟
-لم يكن يملك أجرة الدفن...وكان خائفاً من الحكومة.. أسدلت ذراعي إلى جنبي؛ واستطعت آن التقط خوف الصغير الساذج الذي استمر حتى اليوم دون مبرر ولكنني خفت أن أكون مخدوعاً فعدت أصيح, ولكن بليونة أكثر...
-وأبوك؟ قلت لي أنه مات... أليس كذلك ؟
-لم يستطع حميد أن يتماسك أكثر فأدار وجهه إلى الحائط وأخذ يبكي فيما سمعت خلال نشيجه صوته الضعيف:
- إنه لم يمت.... إنه مجنون يدور في الشارع نصف عار..لقد جن بعد أن شاهد رأس أخي يقطعه المصعد...
- جن؟
-نعم... لقد أطل أخي داخل قفص المصعد من أجل أن يستقبل أباه..وشاهد أبي المنظر بأم عينيه؛ فأخذ يعدو في الشارع..
قلت, مستشعراً الدوار يتكلب في صدغي: -
لماذا قلت لي أنك تبيع الكعك؟ هل تستحي من صنعتك ؟ لانت نظرات حميد , وحدق إلي بعيون شفافة قائلاً بخجل:
- لا.. لقد كنت أبيع كعكاً, وأول أمس عدت إلى هذه الصنعة..
- ولكنك كنت تكسب كثيراً ؟
-نعم, ولكن..
- وعاد الرأس الصغير ينوس كعادته كلما تعرض لخجل أكبر منه, ودق بالفرشاة على سطح الصندوق دقات منتظمة هامساً دون أن يرفع بصره..
- كنت أجوع آخر الليل...وكنت آكل كعكتين أو ثلاثة.
لم أدر كيف أتصرف, هممت أن أطلق ساقي للريح, ولكني وجدتني أضعف من أن أفعل.. وبقي الرأس الصغير بشعره الأسود الخشن منحنياً, ودون أن أحس رفعت قدمي وأركزتها على حدبة الصندوق..
بدأت الكفان الصغيرتان تعملان بحذق فيما أخذ الرأس الخشن يهتز فوق الحذاء, ثم وصلني الصوت إياه قائلاً ببساطة:
- أستاذ... أنت لم تغير حذاءك منذ عام... هذا حذاء رخيص.
*الكويت 1959
كعـكٌ على الرصيف !!
بقلم : غسان كنفاني ... 09.03.2015
قصة قصيرة من روائع الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني