أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
قراءة تحليلية لرواية صابر، للروائي والسينمائي سليم دبور!!
بقلم :  سمير الجندي ... 25.12.2014

رواية - رغم أن كاتبها الروائي سليم دبور أنجزها في أيلول/ 1993، وهو من مواليد 1970، أي حين كان الكاتب شاباً في مقتبل العمر- إلا أنها تستحق أن يطلق عليها رواية كل الفلسطينيين، كما أطلق عليها بعض من كتبوا عنها من قبل، إذ أنها غطت وبكفاءة عالية وموضوعية عقود عديدة من الألم والصراع والمعاناة التي عاشها الفلسطيني قبل النكبة وبعدها حتى انتهاء الانتفاضة الأولى المجيدة وتوقيع اتفاقية أوسلو. تتكون الرواية من (491) صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على (27) جزءاً، صدرت في أواخر 2013 عن دار الجندي للنشر.
سردت أحداثها بمصداقية وموضوعية وإحساس كبير وبالصورة قبل كل شيء، وكأن قارئها يشاهد فيلماً سينمائياً صنع بمهارة عالية، مستخدماً الحبكة المركبة إذ أنها تقوم على أكثر من حكايتين، حكاية "صابر" الشخصية المحورية، وحكاية العجوز "أبا العبد"، وحكاية "أبا محمد"، بأسلوب ذكي ودون أي فجوات تذكر. وكي تصل أراء الكاتب إلى كل فلسطيني وعربي كتب الرواية بلغة واقعية، مباشرة، متماسكة، وأسلوب مشوق وسلس يحفز القارئ على قراءتها حتى النهاية وبقوة جاذبه تدفعه للتفاعل مع أحداثها دون ملل وتترك في وجدانه مشاعر شتى تتقلب ما بين الغضب، والفرح، الحزن، والسعادة، وحتى البكاء أحياناً. تسلط الرواية الضوء على معاناة إنسانية طال ليلها كثيراً وتضرج نهارها بدماء شعب مسالم كان يعيش فوق أرضه بهدوء واستقرار. تغتصب أرضه على مرأى ومسمع الجميع دون أن يبادر أحد لرفع الظلم ليجد نفسه وحيداً في مواجهة مخطط صهيوني تم الترتيب له مسبقا بمساعدة أطراف أخرى. شعب تجرّع ولا يزال كل أنواع التعذيب والتقتيل، والعالم أعمى لا يرى الحقيقة، أصم لا يسمع إلا صوت المحتل، ابكم لا يقول كلمة حق، بل يدعم ويساند الاحتلال ويتجاهل صراخ الضحية!
ابتدأ الروائي سليم دبور روايته ببداية مهمة جداً، بداية أراد أن يعرّي فيها حقيقة العالم المتحيّز، حيث أثار فيها بطل الرواية "صابر" جملة من الأسئلة المنطقية التي تحفز ذهن القارئ وتدفعه للبحث عن اجاباتها: " لماذا لا تتساوى القوة عند الجميع؟ لماذا يصر الضعيف على ضعفه؟ لماذا يسرف القوي في استخدام قوته؟ مَن قسَّم القوة؟ لماذا شعبنا هو الضحية دائماً؟ لماذا الجسد العربي مصاب بالشلل الدماغي؟ لماذا يملك زعماؤنا الذهب الأسود ولا يملكون العقل، بينما يملك الأغراب العقل وبذكائهم يسرقون ذهبنا؟ لماذا يُنصر الظالم؟ لماذا كان عليّ العيش في غرفة أشبه بقن الدجاج، وغيري ينعمون بالقصور؟ لماذا جُعلت لاجئاً؟ إلى متى ستظل السكين المتثلمة تحزّ أعناقنا والعالم صامت؟ متى سأغادر هذه المصحة الحمقاء، ومتى سيتوقف أولئك الساديون عن حقني؟"، مما لا شك فيه أن هذه الأسئلة المنطقية والمباحة تولد الرغبة والتشويق عند القارئ لمتابعة القراءة والتفكير مليّاً بأجوبتها.
انتقى الروائي دبور شخوص روايته بحكمة، وكذلك أسماء الشخوص، رغم أنه تعمد أن يعطي اسماء تعني عكس حقيقة أصحابها، مثل شريف صبي الخدمة في المقهى، وهو في حقيقة الأمر عميلاً يخدم المحتلّ، وصابر ابن أبي العبد وهو في الحقيقة ابن خائن كثير اللهو تسبب في مقتل شقيقه المناضل، وسعيد الرجل الشفاف وهو في حقيقة الأمر شقيّ، فقد زوجته وبيته وحتى عقله. أما صابر ونضال ودلال فأسمائهم تطابق حقيقتهم. كما وجعل الشخصية المناسبة في المكان المناسب وبالتالي تشكلت بتفاعلها ملامح الرواية وتكونت بها أحداثها المشوقة. فكانت جميع الشخصيات صادقة يمثلها البشر.
هناك جيل الانتفاضة الاولى والذي تمثله الشخصية المحورية صابر؛ شخصية متميزة بكل المقاييس وبأبعادها الثلاث: البعد التكويني والاجتماعي والوجداني أو النفسي.وللاسم هنا دلالة مهمة فصابر يعني المتجلّد الذي يتحمّل بصبر المصائب وما شابه ذلك، فهو من عاش الانتفاضة الأولى وعانى ما عاناه من قمع وجبروت جنود الاحتلال. وهو الذي حُرم من أمه منذ نعومة أظفاره، وهو من كان في خدمة والده المشلول، وهو من عمل في تلميع الأحذية لتوفير قوته وقوت والده، وهو الخريج الجامعي المتفوق العاطل عن العمل، وهو العاشق الخجول، والمطارد، والجريج، والمعتقل دون تهمة، والمتهم بالجنون كونه الأكثر ادراكاً لما يدور حوله، وهو الذي لم يجد من يتقن الاستماع لألمه فلجئ لصورة والده الميت يشكو له قسوة الحياة ومرارتها بعد موته، معتقداً أن الأموات يعلمون أخبار الأحياء، كما أكد له امام المسجد الشيخ توفيق.
وهناك جيل النكبة والذي تمثله شخصية "أبا العبد": وهي الشخصية الرئيسية الثانية والتي ظهرت في المتن الروائي بنسبة ربما تفوق الخمسين بالمائة. وهي شخصية فذّة، حكيمة، مقاومة، حازمة، مثقفة، شهدت الانتداب البريطاني، وعاشت النكبة بكل تفاصيلها الموجعة، ولها تجارب عديدة ومتنوعة، مؤلمة ومؤثرة، كان لها الدور الأكبر في صقل شخصيته وتتويجه بتاج الحكمة. ساندت هذه الشخصية الجميلة "صابر" ودعمته بقوة وحكمة لتخطي الصعاب التي كان يواجهها. ووجود هذه الشخصية الفذّة تحسب للكاتب، لأنه أراد أن يعزز مبدأ التناغم بين الجيلين في مواجهة الاحتلال؛ بحيث كان جيل الانتفاضة في المقدمة، مسنداً بجيل النكبة، إضافة إلى أنه أراد أن يخبر القاصي والداني عن طول الوجع الفلسطيني تحت نير الاحتلال الغاشم. ففلسطين أحتلت منذ كان العجوز صبياً واستمر احتلالها لنرى هذا الصبي في صورة رجل مسن، وكأن الكاتب أراد أن يقيس عمر الاحتلال بعمر العجوز ليقرّب الصورة لمن لم يدرك بعد طول المعاناة وثقلها. كما أنه أراد أن يورث الجيل الجديد الألم في رسالة مبطنة إلى الأشقاء العرب الذين تركوا الفلسطيني يقاوم الاحتلال وحده وبصدور عارية، دون أن يحركوا ساكناً. وهذا يبرر سخط صابر في الفصل الأول من الأنظمة العربية والتي اتهمها بالخيانة والتآمر: " كلهم مجرمون. ستظل خيانتهم تطاردهم في أحلامهم وصحوتهم وقبورهم إلى يوم يبعثون. باعونا بثمن بخس، تآمروا علينا وهم من فصيلتنا".
وهناك شخصيات عديدة ثانوية لعبت دوراً مهماً وكانت بمثابة العامل المساعد في التفاعل الكيميائي، ربطت الأحداث أو أكملتها وكان لها الأثر الجميل في بناء الرواية رغم أنها شخصيات غير مصيرية، ومنها شخصية نضال والذي كان يعتقد صابر أنه رجل لئيم وفظ نتيجة تصرفاته حين توفي والده، إلا أنه أدرك أنه رجل شجاع وطيب، وتصرفاته وقت الوفاة لم تعبر عن حقيقته الجميلة فأصبح صديقاً له، بل وشريكاً له في الحانوت. وهو شخصية ثورية مقاومة. وكذلك شخصية المجنون جرعوش، وهي شخصية موجودة في كل مخيم وقرية تقريباً، شخصية مسالمة، عنيفة أحياناً، لكن طيبة ووفية في أغلب الأحيان، وحتى هذه الشخصية كان لها دوراً في مقاومة الاحتلال. وشخصية : "أبا محمد"، والتي ومن خلالها سلط الكاتب الضوء على قسوة الفراق القهري بسبب الشتات بعد النكبة، وربما أراد أيضاً أن يطرح مسألة الأبناء العاقين الذين تخلّوا عن والدهم وقت الاعتقال، بعد أن أخذوا أمواله بل أرادوا أن يزجوه في دار للمسنين، أو أنه أراد أن يقسم أدوار الرواة، فالعجوز يتحدث عن النكبة وما بعدها، وصابر يتحدث عن الانتفاضة وهموم جيله، وأبا محمد يتحدث عن ما قبل النكبة. وشخصية سعيد الطيب، الشاعر، الذي أصيب بالجنون وعانى ما عاناه في سوريا بسبب تشابه في الأسماء، ففقد كل شيء، بيته، زوجته، حتى عقله بعد أن قرروا نفيه إلى أي دولة عربية بناء على اتفاق مع منظمة التحرير، لكن لم تستقبله أي دولة فأمضى وقتاً طويلاً يتنقل من طائرة إلى طائرة حتى فقد عقله. وشخصية الحاجة صالحة، وهي المرأة الحنونة الوفية التي نفتقدها في هذه الأيام. وشخصية دلال التي أحبها صابر بكل مشاعره، وبادلته نفس الحب وتخلّت عن أشياء كثيرة بسبب حبها لصابر. وشخصية الحلاق الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، وشخصية عرفات اللداوي الجار الوفي...ألخ من شخصيات ثانوية أضفت للرواية جمالاً في أحداث متعددة.
أما زمن الرواية هو زمن النكبة، وانتفاضة عام (1987م) حيث تحدث الكاتب عن سنوات الانتفاضة، وتحدث العجوز عن النكبة وما بعدها، لتنتهي أحداث الرواية عام 1993، أي زمن توقيع اتفاقية أوسلو.
استخدم الكاتب أسلوب الاسترجاع للرواية ككل، فوجود صابر في المصحة العقلية هو الحاضر الذي انطلق منه صابر، أي انه ابتدأ بالنهاية ثم انتقل إلى العوامل التي أدت إلي وجوده في تلك المصحة، وكذلك حين التقى بالعجوز وفاز بثقته، استخدم العجوز أسلوب الاسترجاع في سرد حكايته منذ النكبة حتى لحظة الكلام. ومن الجدير ذكره أن الكاتب قام بمراعاة ارتباط الحدث بما قبله وما بعده وما زامنه، وذلك ضمن اطار الاسترجاع. فجمع مع وقت الحضور حاضراً آخر أو الماضي حيث نجح في اعطاء الحدث بعده الكامل ووصفه الملائم، إذ أنه عرض الحدث مفصلاً وكأننا نشاهد الحدث أمامنا بكل تفاصيله. وهذا ما يجعل القارئ لهذه الرواية في قمة الانسجام والتفاعل لأن أحداثها لم تبق على وتيرة واحدة، بل كانت ما بين صعود وهبوط مع الحفاظ على مداعبة عمق المشاعر.
جعل الكاتب مخيم الجلزون المحيط الذي تجري عليه الأحداث أو تدور فيه؛ حيث ولد وعاش فيه. وكونه يتحدث عن المخيم فهو الأقدر على وصف الأحداث التي شهدها المخيم زمن الانتفاضة الأولى. رغم أن المخيم هنا يرمز لجميع مخيمات اللجوء في فلسطين المحتلة وليس لمخيم الجلزون وحده. كما اختار الكاتب الأمكنة التي تناسب الأحداث، وللمكان كما هو متعارف عليه دلالات فالمخيم يدل على المعاناة التي تسبب بها الاحتلال وهو يجمع كل من شردوا من فلسطين التاريخية وهو شاهد حي على قذارة الاحتلال. وللمكان قدرة على تحقيق الانسجام بين الحدث والشخصيات والقارئ.
أما أحداث الرواية فلم تستمر على وتيرة واحدة من الحدة، إذ أنها كانت تتراوح بين الهبوط والصعود، بين المفرح والمحزن، المفجع والمضحك، تتنقل بالقارئ بلباقة من حالة التأقلم التي تفرضها تلك الاستمرارية. رأينا صابر في مواقف أبكت القارئ، ومواقف أضحكته، وأخرى أشعرته بالخجل ربما لأنه لم يقم بواجبه. رأينا الأحداث السابقة للصراع والتي تسببت فيه: استشهاد زوجته دلال أمام نقطة التفتيش، موت العجوز الشخصية المساندة لصابر ورفض صابر دفنه: "، ورأينا الأحداث اللاحقة لها، الناتجة عنها، حبس ابنه في قفص كي يحميه من الموت: " وضعته في قفص لأحميه من إخطبوط الموت الذي يختطف بأذياله الصغار والكبار، يسلبهم أرواحهم بدم بارد". الأمر الذي جعل الجيران يعتقدون أنه مجنون، وبالتالي تم وضعه في مصحة الأمراض العقلية.
أثار الكاتب قضايا عديدة ومهمة جداً، أذكر منها: قضية العمالة، وقضية العمل في المستوطنات، والإسقاط الأمني للفتيات والشبان، والتحقيق في الأقبية الصهيونية، والفقر في المخيمات، والتماسك الاجتماعي، والواسطة، والبطالة، وغلاء المهور، والإشاعات، وعلاقة اليهود بالفلسطينيين قبل الاحتلال، وسرقة جثث الشهداء وسرقة الأعضاء منها كما فعلوا مع دلال، وقضية التفجيرات (العمل ألاستشهادي) والآراء المختلفة حولها، وقضية الجرحى المقعدين كما حدث مع الطفل محمد، وهدم بيوت المعتقلين، وأمور كثيرة ومهمة جداً سيلاحظها القارئ عند قراءة الرواية.
حضور المرأة الفلسطينية كان قويا ومميزاً في الرواية؛ فقد كانت إلى جانب الرجل في جميع محطات الصراع، ونالت نصيبها من المعاناة بفقدان أحد أبنائها أو اعتقال ابنها أو زوجها، أو هدم منزلها أمام عينيها أو تزويد الجيران بالخبز وقت حظر التجوال، حتى أنها فقدت حياتها كما رأينا كيف استشهدت دلال أمام نقطة التفتيش بدم بارد دون مراعاة للظروف الإنسانية التي كانت تمر بها، وحاجتها الملحة للوصول إلى المستشفى من أجل الولادة، وبرغم كل الأحداث الموجعة تستمر الإرادة والإصرار على التحدي حتى نيل الحرية.
لو تعمقنا قليلاً في بعض أحداث الرواية لتوصلنا إلى تحليلات عميقة، فمثلاً: هل صابر فعلاً مجنون لأنه لم يدفن جثة العجوز ولأنه وضع ابنه في قفص؟ إلى ماذا يرمز استحضار الروائي لشخصية آدم من خلال الحلم؟ لماذا يعيش العجوز في خيمة؟ لماذا مات العجوز بعد توقيع اتفاقية أوسلو؟ لماذا أطلقت دلال على ابنها اسم صابر؟ وامور كثيرة طرحها الكاتب تستحق الوقوف أمامها والتفكير بها بعمق. أرى أن صابر ليس مجنوناً، بل أعقل العقلاء: " تمخَّض الألم في قلبي، فأنجب جنوناً! يا ناس، أنا لست بمجنون، أنا أعقل من أعقلكم، لكن ما أصابني جنن الجنون. يا ناس، أعيدوا لي صابراً، أعيدوا لي دلال، أعيدوا لي العجوز، أعيدوا لي كل ما فقدت وأعدكم بأن أحارب الجنون. يا ناس، لا تقطعوا العرق النابض، لا تغتالوا حلمي المبعثر، لا تسخروا من وضعي المدمّر، الموت للصدمات. الموت للحقن! الموت لكل من اتهمني بالجنون.". فهو لم يدفن العجوز لأن عقله لم يعد قادراً على التفكير، بل لأن العجوز يرمز إلى الضمير، وصابر يدرك ذلك جيداً، كما أن موته بعد توقيع اتفاقية أسلو التي يرفضها العجوز يؤكد ذلك. كان العجوز على ثقة أن أوسلو هي الحقنة التي ستجهض الانتفاضة وبالتالي ستنقل الفلسطيني إلى مرحلة أكثر قسوة، من وجع إلى وجع أكثر مرارة. موت الضمير جعل صابر يعتقد حدوث الأسوء، وهنا ازداد خوفه من المستقبل المجهول فوضع ابنه في قفص، هو يدرك أن القفص لن يحمي ابنه من الموت، بل أراد أن يقول لنا أن بعد موت الضمير سيكون أطفالنا عرضة للخطر الشديد، ربما ما يحدث في الوقت الراهن من استهداف الأطفال وقتلهم بدم بارد يجسد نبوءة الكاتب التي تحققت.
أما بقاء العجوز في خيمة، فهي ترمز إلى رفضه للجوء، وإيمانه بعودته إلى اللد المدينة التي شرد منها، واستشهد والده فوق ترابها، وكأنه يقول لنا بقائي هنا مؤقتاً، ولست بحاجة إلى بيت، فبيتي في اللد، فلا زال العجوز يحتفظ بمفتاح منزله في اللد تحت وسادته: اتكأ على وسادته، فانزلقت الوسادة. رأيت تحتها مفتاحاً كبير الحجم وقديم الصنع يأكله الصدأ، استغربت أنه يحتفظ بمفتاح، فلا يوجد في خيمته شيء يستدعي وجوده. تناولت المفتاح، وسألته وانأ أتفحصه لماذا يستخدمه. تنهد تنهيدة حزينة، وقال: "كنا نستخدمه ذات مرة". لم أفهم ماذا قصد. سألته مستغرباً: وماذا تقصد؟ فأجاب وقد بدا غاضباً: "هذا مفتاح منزل والدي، هل فهمت؟". سألته بفضول أو ربما بغباء: لماذا تحتفظ به حتى الآن؟ رمقني بنظرة لم أفهمها وأجاب باستياء: "لهذا المفتاح قفل، ولذاك القفل هذا المفتاح! من يعلم متى سيلتقي هذا المفتاح بذاك القفل". قلت بعفوية وسذاجة: "أجزم أنهم كسروا القفل". انتزع المفتاح من يدي، وقال ساخراً: "وأنا أجزم أن أمامك الكثير لتتعلمه، أسأل الله أن نستخدمه ثانية في المكان الذي أُعدّ له"."
كما وأن الكاتب أراد أن يقول لنا أن تحرير فلسطين واستقلالها لن يكون قريباً، ومن هنا خلق شخصية صابر الابن، دلالة على استمرار المعاناة والاحتلال، وليس تيمناً بصابر الأب الذي ظنت زوجته أن والده قد استشهد.
صابر ومنذ البداية يعاتب والده ويلومه لأنه أحضره إلى عالم مكتظ بالظلم والفساد: "أنت الملام يا أبي، ليتك لم تفكر بإنجابي. ألم تكن تدري أن العالم الذي جلبتني إليه عالم مكتظ بالظلم والفساد؟ أم هل كانت شهوتك أقوى من أي إدراك لأية حقيقة؟"، إلا أنه يدرك لاحقاً أن والده ضحية مثله، وأن من يستحق اللوم والعتاب هو سيدنا آدم عليه السلام، لأنه أخرجنا من الجنة بسبب فضوله، وبالتالي تسبب لنا بهذه المعاناة، فاستحضر الكاتب شخصية آدم من خلال الحلم ليأخذه في رحلة يرى من خلالها ماذا فعل أولاده البشر بأنفسهم.
تنوع الصراع والتصادم في هذه الرواية بين قوى متعددة، وكل حدث أثر في غيره بطريقة لبقة. وبرز في الرواية ازدواجية الصراع، داخلياً وخارجياً، أما الداخلى فتمثل بين صابر ونفسه، حيث كانت تتجاذبه قوتين، كقوة الإرادة وقوة الإعراض، أو قوة الحق وقوة الباطل، أما قوة الحق فتتمثل في حقه بالعيش بحرية وكرامة فوق تراب أرضه المغتصب، أما قوة الباطل فتتمثل بالاحتلال الذي حرمه من أبسط حقوقه، حتى السير في الشارع دون التعرض لأذاهم والاعتداء عليه بالضرب المبرح. وكذلك حقه كخريج جامعي متفوق بالحصول على وظيفة كريمة تتناسب مع تخصصه. أما الصراع الخارجي فهو الصراع المركزي والمصيري والذي يتمثل باستمرار احتلال فلسطين، كل فلسطين. وكان جلياً أن الروائي دبور سلط الضوء على الصراع الخارجي أكثر من الداخلي كي يزيد من انفعال القارئ حيث أن الصراع هو النقطة الأكثر تأثيراً في نفس القارئ، وهو اللحظة التي تصل بالقارئ إلى أعلى درجات الانفعال والتي تجسدت في استشهاد دلال زوجة صابر الحامل بسبب مزاجية جنود الاحتلال. وبهذا استطاع الكاتب أن يشد القارئ لمواصلة القراءة بإيصاله إلى أعلى مراحل الانسجام، ويزيد الانفعال عند المرحلة التي يحتدم فيها الصراع عند رؤية زوجته في ثلاجة الموتى مع جنينها الذي خرج للحياة ميتاً بسبب الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجنود عمداً.
جاءت الحبكة أو تنسيق الصراعات مع الأحداث رغم تشابكها بصورة متسلسلة نحو الغاية التي أرادها الكاتب. مما جعلت القارئ يستوعبها ويربطها بسلاسة في ذهنه، مستخدماً أسلوب الانحدار المنساب والذي بلا شك حقق الانسجام والتركيز لدى القارئ. فالصراعات الكثيرة التي وردت في الرواية كانت مرتبة ومهندسة ومنسقة،سواء المتعلقة بصابر أو المتعلقة بالعجوز، الأمر الذي أنجح الرواية ولم يسبب للقارئ الازعاج مثلما يسببه الانحدار ألانكساري الذي يهبط بالقارئ من موقف إلى موقف وبشكل فجائي.
أما فكرة الرواية والتي هي أساس العمل الروائي والدافع والمحرك لرغبة الروائي فكانت أكثر من رائعة، إذ أن الفكرة الرئيسية من رواية صابر، هي تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني بشكل عام والمخيم الفلسطيني بشكل خاص، ورغم أن هذه الفكرة الرئيسية من الرواية إلا أنه ورد في الرواية أفكار أخرى ثانوية خدمت الفكرة الرئيسية، فلكل صراع موجود في الرواية فكرته المرتبطة بالفكرة الرئيسية، كما وضمّن الكاتب عدة أهداف لإيصال مجموعة من الرسائل إلى الجمهور، بصورة غير متكررة كما ورد في عدة فصول من الرواية، أقتبس منها ما ورد في الفصل الأول حول الأخبار التي تخص القضية الفلسطينية والتي بقيت ثابتة ثبات الصمت العربي المخجل: " وأية أخبار؟ أخبار هرمة مللت سماعها، ضجرت من عناوينها المتكررة وتفاصيلها الممقتة. دائماً نفس الأخبار، أخبار القرن الماضي تعيد نفسها من جديد، تغيرت التكنولوجيا في بث الأخبار، تغير المذيعون، إلا أن الخبر بقي على ما هو عليه، لا يتغير. عناوين مفجعة تتكرر باستمرار، كلها تدور حول مسرحية هزلية طال مُشاهدتها، بطولة أرض قيل إنها بلا شعب! أرض اغتصبت منذ عشرات السنين ولا زالت حتى اللحظة".
وحول الشعارات البراقة التي طرحها العرب لتحرير فلسطين: " عفواً، أخطأت! حررّها بعضهم بالكلام، وطئوا ترابها بالأحلام، صلّوا في أولى القبلتين وكلاب الصيد نيام، جوّعوا السمك ليطعموه لحم الاحتلال، مات السمك من الجوع، ومتنا نحن من ثرثرتهم وشعاراتهم البراقة، شعارات شوّهوا بها جمال وجوهنا وطُهر قلوبنا، جعلونا أكلة لحوم البشر، أكلة العظام وأسناناً ضعيفة، لطيفة، هشة لا تقوى على طحن حبات الزبيب.".
وحول تمسك الزعامات العربية بمقاعد القرار: "يا ويحهم! أسماؤهم تتكرر ليل نهار، رجال أبديون لا يتغيرون، ألصقوا مؤخراتهم المترهلة بمقاعد القرار، وقالوا لماشيتهم في وضح النهار: نحن منزلون، عدّوا لنا بعشرات السنين. أصوات متخمة مللنا سماعها، شعارات براقة أصمت آذاننا، سياسات موحدة تطبخ أفكارها في مطبخ معروف، معروف جداً، وعلى الشعوب المخدرة أن تأكل مما يقدم لها من وجبات مُهينة، مُذلة مُجبرة لا مُخيّرة، فيبقى الخبر محتفظاً بشكله ومضمونه".
وغيرها الكثير من الرسائل الغاضبة والجريئة والتي تعبر عن واقع القضية الفلسطينية والغضب الفلسطيني. وقد امتازت رواية صابر بالشمولية إذ أن الرواية غطت وبأسلوب مشوق أهم ما مرت به القضية الفلسطينية منذ النكبة حتى توقيع اتفاقية أوسلو. ولم تترك شأنا يخص القضية الفلسطينية إلا وذكرته، مثل: حرب حزيران، وانضمام القدس الشرقية إلى القدس الغربية، كذلك انسحاب اليهود من سيناء، وقطاع غزة بعد فشل العدوان الثلاثي...ألخ.
جاءت النهاية محكمة ومفتوحة ومكتملة الفكرة، إلا أن القارئ يبقى متشوقاً لما سيحدث مع بطلها صابر الذي زج في مصحة الأمراض العقلية. وبات جلياً للقارئ أن الروائي دبور يريد أن يقدم للقارئ الجزء الثاني حيث يقول بطل روايته صابر في الصفحة الأخيرة: " هذه قصتي يا أبي، تفلق الحجر وتعبِّر عن جنون، وأنا لست مجنوناً وإنما أمكث في هذا المستنقع النفساني لأترقى إلى درجة مجنون، وعندما أتعلم فنون الجنون، سأعود وأسرد لك تاريخنا الجديد. سأحتفظ بصورتك لأحدثها عن فلسطين الجديدة. الآن شقشق النهار، واستيقظ سعيد وجاء موعد نومي. سأنام طويلاً، ربما أشهراً أو سنوات، وحين يذوب الثلج ويظهر ما كان مخفياً، سأعود... حتماً سأعود لأروي لك الجديد.".
أما الروائي وهو منتج هذا العمل القيم، فمن العيب أن نذكر الإبداع ونهمل المبدع الذي قدّم لنا هذه الملحمة الرائعة والفريدة. فكرة هذه الرواية لم تأت من الفراغ، فكثيراً ما ينثر الروائي أبعاد شخصيته على إنتاجه الأدبي، وقد تكون هذه الرواية هي حدث وقع في حياة الراوي وأثر فيه، وليس بالضرورة أن يكون قد حدث له شخصياً، إنما حدث في حياته فشارك في بناء فكرته، فالمحيط يؤثر في النفس، ومحيط الرواية مخيم الجلزون، هذا المخيم الذي يضم من هجروا من اللد والرملة وحيفا ويافا وبيت نبالا والسافرية وعنابة...ألخ، والروائي عاش في المخيم وترعرع فيه وتعرض للاعتقال عدة مرات، وسمع قصص المهجرين، ورأى ما رأي من ألآلام دفعته لبناء روايته صابر، لتخرج من قلبه إلى قلب القارئ. ومما لا شك فيه أن الروائي سليم دبور تمكن من نسج الصراعات والأحداث لمتن روايته لامتلاكه الفكرة الكاملة والمهارة العالية – منذ شبابه- والتي مكنته من بناء هذه الرواية بهذا الإبداع. انتهينا من قراءة الرواية، لكن أحداثها ستظل تسكننا ما حيينا. ولا يسعنا إلا أن نهنئ الروائي سليم دبور على هذا المجهود الأدبي الرائع، ونقدم له جزيل الشكر.

1