أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
رواية “الزمن الأخير” للكاتبة نوال مصطفى!!
بقلم : منير عبيد ... 15.11.2014

يطرح عنوان الرواية للوهلة الأولى تساؤلات تثير القلق تتعلق بخوف الإنسان من فقدان تفاصيل من حياته بسبب ضعف الذاكرة و تآكلها بفعل الزمن الذي لم يستطع ولن يستطيع أن يوقف عجلة دورانه . وبمرور الزمن أيضاً تأتي المعوقات و القيود الاجتماعية و النفسية . لكن قراءة الرواية تكشف لنا عن نظرة تأملية فلسفية من خلال بنية سردية تعتمد حكايات متناظرة و متقاطعة تنتهي بحكاية أخيرة تجعلنا نعيد النظر في تشبثنا بأهداب الماضي فتضيع علينا متعة الحاضر . ومن ناحية أخرى تتسم الرواية بالواقعية السيكولوجية مما يجعلها تولي اهتماماً أكبر برسم الشخصية من الداخل ودوافعها وظروفها و تفاعلاتها الداخلية التي تنبع و تتطور نتيجة لحدث خارجي .
اختارت نوال مصطفى راوي القصة بضمير الغائب ليكون وسيطاً محايداً بين الكاتب و الراوي ،الذي بدوره يلجأ إلى استخدام الفلاشباك و تيار الوعي أو المونولوج الداخلي ليطلعنا على الأفكار التي تتلاحق في ذهن الشخصية و الأحاسيس التي تداخلها .هذا إلى جانب استلهام الشعر العربي و الأدب العالمي و الأغاني و الكتاب المعاصرين و الموسيقى لتعميق فهمنا للتجربة التي تمر بها الشخصية و ما يداخلها من إحساس و يضفي عليها جواً واقعياً و كأنها تدير حوارات أو تتماهى معها .
يقتضينا التحليل المنهجي أن نتطرق إلى العمل السردي الروائي باعتباره حكاية وخطاباً لأنه يثير واقعة تضم أطرافاً فاعلة تختلط صور أشخاصها المروية مع الحياة الواقعية . وتضم الحكاية عناصر هي : حدث يُروى وطرف عامل يقوم بدوره في الفعل وزمان الفعل و فضاؤه أو مكانه . و نبدأ بالقصة الأولى التي يضم إطارها جميع القصص الأخرى و أطرافها الفاعلة . فعلى أرضية غرفة المكتب تجلس شهد تحيط بها عشرات الألبومات و صناديق الأوراق تنتابها دوامة من التساؤلات التي لاتجد لها إجابات . فهي امرأة خمسينية وشد ما يقلقها أن تفقد رصيدها من الذكريات كما حدث لأمها .ألهذا السبب تحتفظ بسجلات من حياتها في هذه الألبومات و الصناديق ؟ تعاني شهد من الإحباط بعد أن تركت وظيفتها بسبب مرض أمها و شجعها زوجها أحمد على الاستقالة . وممايزيد من محنتها شعورها بالفراغ العاطفي الكبير في حياتها الزوجية . إذ يخبرنا الراوي أن أحمد أستاذ جامعي أكمل عامه الخمسين و لكنه لا يعاني من أزمة منتصف العمر فحياته مليئة بالمغامرات و الخيانات الزوجية منذ تزوج شهد قبل خمسة و عشرين عاماً ، و التي يبررها على عادة كثيرين من المثقفين و الأكاديميين بأنها تفيد الزواج و تقويه و تضمن استمراره . كانت خياناته متكررة و متقنة الحبك بحيث لا تتسرب ذرة شك إلى زوجته شهد .
كان نبأ وصول طارق من لندن بمثابة حجر ألقي في مياه راكدة . كان طارق أقرب صديق لأحمد منذ كانا طالبين في مدرسة السيدة زينب الثانوية . وفي الجامعة درس أحمد العلوم السياسية و درس طارق الأدب الإنجليزي ثم أرسل في بعثة دراسية إلى جامعة أكسفورد حيث التقى جيسكا التي كانت تدرس علم المصريات القديم . في كافتريا الجامعة تسمع جيسكا شخصاً يتحدث العربية فتلتفت إليه و يتعارفان . يحبها و يتزوجها و تشهر إسلامها و تنجب له ابنته ليلى .
وصل طارق إلى مطار القاهرة بمفرده حيث استقبله أحمد . كانت علامات الحزن بادية على وجهه رغم ابتسامته المتكلفة . ارتفعت معنويات شهد وبدت في كامل رونقها و أناقتها وفتنتها . كان ترحيبها بطارق ملؤه الحماس و الدفء. وقد أشرفت على تنظيف البيت و ترتيبه و أعدت بنفسها طبق البيكاتا بالشامبنيون الذي يحبه طارق . وكان ترتيبها للمائدة ينم عن ذوق سيدة مثقفة متذوقة للفن و الجمال .
هنا تنقلنا نوال مصطفى إلى مشهد مناقض تماماً فعلى عكس الليلة السعيدة التي قضاها طارق في القاهرة مع أحمد أعز صديق له لم تنم زوجته جيسكا فقد كان يطاردها شبح حرمانها من ليلى الذي أقض مضجعها وطرد النوم من مقلتيها فأفرطت في شرب الخمر . ونفهم من حديث طارق أنها أشهرت إسلامها حين تزوجها علها تقلع عن شرب الخمر الذي كان يؤرقها خشية أن تلقى مصير أمها التي ماتت في مصحة لعلاج الإدمان . كانت جيسكا تحقق ذاتها في تدريس علم المصريات . و بالفعل توقفت عن تعاطي الخمر بعد دخولها أكبر مصحة في لندن لعلاج الإدمان و أخذت تهتم بابنتها ليلى وطارق . لكننا نفاجأ عندما نعلم من حديث طارق مع أحمد أنها ما لبثت أن رجعت بعد شهرين للشرب بطريقة هستيرية ، مما أوجع قلب ليلى على أمها و أشعر طارق بالحزن و الألم كما تبدى من ملامحه .
في هذه السهرة حدثت نقطة تحول تدريجي في مصائر شخصيات الرواية التي توظف ثنائيات التضاد و توضح مسببات الحدث و نتائجه لتقودنا إلى نتيجة منطقية واقعية . كذلك تستلهم الكاتبة مخزونها الثقافي الثري من شعر و أغان و فكر و قراءة مستفيضة في الرواية لترديد أصداء أحداث الرواية و مواقفها ، و إضفاء جو شاعري يزيد من متعة قراءتها و يوجد حالة من التأملات الفكرية . ففي تلك الليلة التي التف فيها الأصدقاء حول مائدة العشاء المثيرة للشهية و الخيال كانت شهد منتشية مبتهجة و قد زال عنها الشعور باليأس و الخوف و الإحباط . ونسي طارق همومه و أحزانه فيستدعي أبيات قصيدته الأثيرة لمحمود درويش ” على هذه الأرض ما يستحق الحياة ” .
تعثر شهد على كراسة صغيرة احتفظت فيها بذكرى قصة الحب المشتعلة بينها و بين خالد حينما كانا طالبين بكلية التجارة قبل خمس و عشرين سنة إلى أن عصفت بهذا الحب منحة دراسية إلى الولايات المتحدة ورفض تحقيق رغبتها في أن يتقدم لخطبتها قبل أن يدعم مستقبله المهني و العلمي .فتزوجت من أحمد الذي كان معيداً في الكلية نفسها . لكن القدر ساقه مرة أخرى في حياتها عندما عين مديراً للبنك الذي تعمل به منذ خمس عشرة سنة . وعادت العلاقة بينهما بعد صراع عنيف بين الرغبة و الواجب … الإخلاص لحبيبها و الخيانة لزوجها وكما جمع القدر بينهما بعد فراق طويل فقد فرق بينهما من جديد إذ مرض خالد بالسرطان ثم مات تاركاً شهد تجتر هذه الذكريات بقلب مزقه الحب الوحيد في حياتها .
وينتهي هذا الملف من حياة شهد الذي يفسر لنا سبب عدم اكتراثها بما يفعله زوجها . فهي لم تتزوجه عن حب وعاشت معه و عقلها وقلبها يعيشان ذكرى الحب الوحيد في حياتها . كانت الحياة بينها وبين أحمد زوجها خلوا من العواطف الدافئة . فقد أحمد إحساسه بها كأنثى منذ سنوات واقتصرت العلاقة بينهما على كونها رفيقة العمر و ام أولاده سيف وسارة وشريكة مؤسستهما الاجتماعية الناجحة . ولذا أكمل أحمد الجزء الناقص في حياته مع فاتن عشيقته . وقبل أن تغلق هذا الملف نتوقف برهة أمام مصير هذه العلاقة الزوجية التي سادها البرود العاطفي و الخيانة الزوجية . إن المصير الطبيعي هو الانفصال أي الطلاق . فكيف يتم ذلك ؟ هنا تحيلنا الكاتبة إلى ملف آخر يتناول حياة طارق وجيسكا وابنتهما ليلى . و تتقاطع القصتان في الأطراف الفاعلة . فجيسيكا كانت قلقة رغم اختلاف السبب أيضاً من أن ينتهي بها مشوار العمر في مصحة لعلاج الإدمان .ونستشف من حديث طارق مع رفيق عمره أنه لم يكن زوجاً مخلصاً فبينما كانت شهد تعد العشاء إذ بأحمد يسأله عن أخبار النسوان . ويكشف لنا الراوي أنه خانها مع أختها الصغرى . وتسبب ذلك في عودتها إلى تعاطي الخمر مما أدى في نهاية المطاف إلى فصلها من الجامعة . والنتيجة هي أنها أصبحت امرأة محبطة مكتئبة مثل شهد . لذا احتاجت جيسيكا إلى وقت تفكر فيه و ترتب أوراق حياتها . لذا رجت زوجها وابنتها أن يتركاها و شأنها واختارت ليلى أن تسافر إلى مصر .
تتجلى براعة السرد عند الكاتبة في تطور الأحداث بطريقة منطقية هادئة . فعندما سألها طارق عن سبب اهتمامها بالماضي بادرته بسؤال عفوي : ألا تعيش الماضي ياطارق ؟ كان سؤالها بمثابة حجر ألقي في بحيرة تفكيره لأنه كان يعد كتاباً عن الحنين إلى الماضي . سعد كلاهما بهذا اللقاء الفكري واتفقا على اللقاء في جلسات عمل تحكي فيها ما تحس به و تعيشه حينما تستدعي أحداث الماضي ، وبارك أحمد هذا المشروع إذ يقول لنا الراوي إنه كان مشغولاً بعلاقة غرامية مع فاتن .وخلال البحث عن الزمن المفقود أصبح الرباط بين شهد و طارق قوياً وتبادل الاعترافات بأشياء لم يبح بها أي منهما إلى أقرب الناس إليه وهكذا سقطت الأقنعة بينهما تماماً .
بدأت الجلسات في بيت شهد ثم انتقلت إلى بيت طارق حيث انهار الجدار الفاصل بينهما . عند هذا المنعطف تبدأ معادلة جديدة بين الأطراف الفاعلة . إذ بعد سقوط الأقنعة تنشأ علاقة بين شهد وطارق من جهة و يقرر أحمد الزواج من فاتن و يطلب من صديق عمره طارق أن يزف ذلك الخبر إلى شهد عارضاً عليها البقاء على ذمته لكنها تطلب الطلاق وتصر عليه . أما ولداهما سيف و سارة فلهما حق اختبار أين يعيش كل منهما ومع من . وعليه اختار سيف أن يعيش مع أمه التي يحبها و يعتبرها شمس حياته . واختارت سارة العيش مع أبيها في منزله بالشيخ زايد. وقررت شهد ترك منزل الزوجية و العودة للإقامة في بيت عائلتها في السيدة زينب . ويتقاطع ذلك مع طلب جيسيكا الطلاق من طارق . وبذا مهدت الكاتبة الأسباب لنقل فضاء الحدث حيث يأخذ السرد منحى جديداً تتضافر فيه الأطراف الفاعلة لتولد علاقات جديدة . شهد تحب طارق وهو يبادلها الحب . سارة تنضم إلى أمها بعدما صفعتها فاتن زوجة أبيها . سيف يحب ليلى التي ترحب بالعودة إلى جذورها المصرية رغم أنها ولدت و كبرت في لندن . وتعيش شهد وسيف وسارة في بيت عائلة شهد بالسيدة زينب . وبالطبع فإن لهذا المكان دلالته وهي العودة إلى الجذور المصرية الصميمة . وفي هذا الحي نشأ طارق وترعرع . بيت العيلة ملتقى الجميع وانضم إليهم رواد من الشباب ودارت أحاديثهم في موضوعات شتى تطرقت إلى الأدب و السياسة و الفكر الثوري . في تلك الأثناء تدرك جيسيكا التي استطاعت العودة إلى التدريس أن طارق و ليلى ينعمان بالعيش في مصر . وطلبت طلاقاً ودياً .وتقودنا الأطراف الفاعلة في المشهد السردي الجديد إلى نتيجة منطقية واقعية . فالمكان فيه عودة إلى الجذور التي تضم ذكريات الطفولة . وطلاق أحمد من فاتن وطارق من جيسيكا يفسح المجال لعلاقة الحب التي نمت بين شهد وطارق تساندها علاقة حب بين سيف و ليلى و أخرى بين مهند وسارة . فكان منطقياً أن يطلب طارق يد شهد عندما تراقصا بمفردهما على ظهر السفينة بناء على طلب القبطان الذي أخلى البيست لهما . فقد قرأ بفطنته و بصيرته و خبرته في عيونهما آيات الحب . وبذا تبدد قلق شهد على ذكريات الماضي وخوفها من فقدانها بعدما وصلت سن الخمسين و أصبحت حياتها كئيبة عديمة الأهمية تنتابها المخاوف . وبدأت هي وطارق الحياة بعد الخمسين ولعل هذا هو المقصود بالزمن الأخير .

1