أحدث الأخبار
السبت 04 أيار/مايو 2024
ألو: تامر المسحال معك !!
بقلم : لينا أبو بكر ... 07.08.2014

عندما يصل الدم إلى الركب في المعركة لا تنظر إلى عدوك ، بل انظر إلى ظهرك !
كان وائل الدحدوح ينتظربفارغ الصبر الشريط المصور الذي يفترض أن يكون تامر المسحال وثق فيه للعدوان الاسرائيلي على منطقة الخزاعة ، ليلة أمس ، حيث سبقت الروايات المروعة للضحايا الناجين من المجزرة عين الكاميرا وتقارير المراسلين الصحافيين ، وكان لا بد خلال ساعات الهدنة المفترضة أن يتوغل المصورون مع تامر إلى عمق الخزاعة ليقفوا بالمشهد عن قرب ….
مضت ساعات مضنية، وصلت فيها أنباء عن تجديد الصهاينة للقصف على الخزاعة ، وعدم مراعاة الهدنة ، مما يعني أن تامر والطاقم الذي يرافقه إلى هناك أصبحوا في مرمى النيران !
اتجهت كل العيون إلى مكتب الجزيرة ي القطاع ، عرفنا من مصادر موثوق بها أن الناس ومنهم أهالٍ للشهداء وَلّوْا وجوههم إلى مكتب القناة ليطمئنوا على تامر المسحال ورفاقه ، ولكن لا خبر يذكر …
الضحايا الناجون يصلون من هناك معفرين بالرمل والدم والبكاءات المقهورة ، وجوههم مشدوهة ، وعيونهم تكتظ بصور سرية لليلة من ليالي القيامة ، بإمكانك التكهن بها من نظراتهم التي لم تزل تختزل المشهد وتستعيد شريط ذاكرته وهي تبحث عن ملاذ وتهرب من صور متروكة خلفها لم تجد وقتا كافيا لالتقاطها ، وقد جن جنون الأبالسة وخرجوا من دركهم الأسفل وهم يحضرون خلطة الذبح بمطرقة السحرة وعفاريت الرعب .
تراهم ينظرون إليك ولكنهم في حقيقة نظراتهم لا يفعلون ، فحين تتحدث إليهم أو تستوقفهم تذهب نظراتهم إلى هناك إلى حيث ذاكرة الصورة التي لم يتم تحميضها بعد ، إن عيونهم لم تزل معلقة وراءهم في الخزاعة ، جاؤوا هم وتركوا عيونهم في مشهد المذبحة ، إن حاولت أن تسألهم عما حدث انتفضوا كأنك توقظهم من شرود أو كابوس لم يزل فاعلا ومستمرا أمامهم ، أو كأنك تنتشلهم من غرفة تحميض سرية ، فما أن يستدركوا الأمر حتى يفطنوا ويشهقوا فجأة في وجهك : هناك ، هناك ، لقد رأينا كل شيء ، كل شيء ، الدم وصل الركب ، وين عباس ، وين العرب يا الله وين !
ثم يتركوك ويعودوا إلى أقدامهم التي تقلهم بعيدا عن مرمى الصور التي بقيت عالقة في مخيلة تتذكر عيون المذبحة !
عين الكاميرا ، تأتي دائما متأخرة على المشهد ، تلتقط الأثر ، ولكنها لا تلتقط الحدث …..عين الضحية هي الكاميرا الوحيدة في هذه القيامة ، وعين الله فقط !
- دحدوح ، أجى تامر ، تامر وصل ، دحدوح ….” أصوات من بعيد ، تقترب ببشرى ناقصة “!
- وينو ؟
- وائل ، إجيت لحالي ، ما بعرف وين تامر ، يا دوب بدا القصف والناس متل يوم القيامة ، كل واحد بمطرح ، صرخ بي مسحال أن آتي ومعي الكاميرا ، وأنه سيلحق بي ، ظللت أركض حتى هدأ القصف ، عدت إلى الخزاعة من جديد لأسأل عنه أحد أفراد بيت النجار الذي كان يرافقه إلى حيث أعدمت العصابات الصهيونية جنودا من المقاومة : قال لي : اختفى فجأة ولا يعلم عنه شيئا !
هنا قيامة أخرى !
تجمع نفر كبير من الصحافيين العرب والأجانب حولنا ، كلهم تطوعوا لتشكيل فرق بحث عن تامر المسحال ، والتوجه بكتائب صحافية استكشافية ، لتقصي الأمر ، خاصة أن بعض أقاويل أو تنبؤات كانت ترجح خطفه من قبل الأعداء ، مما يعني أنه حتما مقتول ، فعملية اختطاف الصحافيين كرهائن في اسرائيل ليست واردة ,,,و إن حصلت فبغرض القتل لا الرهن !
وائل كان يتعرق ويلهث ، وتضيع منه عيناه تماما كأنه أحد الضحايا ، و فجأة انتبه أن عليه اتخاذ قرار حاسم وسريع …قال :
- أين هم أبناء النجار ؟ من يعرف أين أعدم المقاومون ؟ لابد أن أذهب إلى هناك فورا !
شمس حارة كأنها قنبلة تغلي كوشوشات تنور تسبق اندلاع الجحيم ، غبار وركام ، روائح لجثث متعفنة ، لا تستطيع رؤيتها ولكنك تحس بوجودها ، وأنت ترى “شراشف ، وأغطية ” فوقها وضعها الأهالي كي يستروا حرمة موتاهم ، أو موتى غيرهم ، احتراما لقدسية الموت ، وإن توغلت أعمق إلى الداخل ، ترى فردة حذاء ميتة ، تبحث عن جثة تحت الدمار ، لا يمكن انتشالها وقد تراكمت فوقها تلات من الصخور والرمال والحديد والصراخات المكبوتة !
المكان جثة …أطفال يهرولون وتنهمر دموعهم دون أن يبكوا ، إنهم يتابعون ما يتداعى من صور في حدقات الذاكرة ، تتناهى إلى مسامعهم أصوات قصف ، من سماء على وشك الاحتراق ، يضعون رؤوسهم بين أيديهم ويغلقون أعينهم وهم يرفعون صوتهم إلى السماء : يا ربي يا حبيبي ارحمنا ما إلنا سواك !
ابن النجار ، سار متبوعا بكتيبة على رأسها وائل الدحدوح ، إلى موقع جريمة إعدام المقاومين ، فما أن وصلوا إلى البيت حتى هرع وائل إلى مكان الجثث الذي التقطته الكاميرا وبثته الجزيرة ليلة أمس بعد أن نجح المصور بإنقاذ الوثيقة التصويرية التي أعدها المسحال قبل اختفائه !
لا يمكن لبشر أن يتصور أن المكان هو المكان والغرفة هي الغرفة ، شيء ما حدث هنا يا إلهي !
جثث الشهداء المقاومين لم تكن هناك ، ترى دمهم ولا تراهم ، الر ائحة ليست هي التي بدت خانقة في الفيلم، الرائحة الآن مسك ، أخذ الجميع باستنشاقها بل بالتهامها وهم مندهشون لما يرونه ، رأوا منضدة نظيفة وناعمة مسنودة إلى جدار صغير ، طلاؤه صاف لا يشوبهه خدش كأنْ لم يمسسه إنس ولا جان ، سالم تماما من آثار القيامة ، كأنه ليس من البيت ولا يمت بصلة إلى كل هذا الدمار ، جدار وحيد ، آمن تحرسه مشكاة نورانية كأنه نزل لتوه من قصر في الجنة ، معلق في منتصفه برواز لآية كريمة : “كلَّما دخل عليها زكريَّا المِحرَابَ وَجَدَ عندها رزقاً قال يامريمُ أنَّى لك هذا قالت هو من عندِ الله إنَّ الله يَرزُقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ…
بعد صمت متأمل ومشدوه ، التقط وائل الدحدوح ظرفا أبيضا ناصعا عن المنضدة ، كان مفتوحا ، في داخله ورقة صغيرة وناعمة والروقة كأنها قطعة حرير ، والحريرخط عليه بيت شعري :
” فصائلنا وإنْ كانتْ لَها زُمَرٌ يُوحدُها دَمٌ مُتَوَحدٌ فيها “
- ما هذا ؟
- لا أعرف !
- هل أنت متأكد من البيت ؟
- ولْ يا زلمة ، كل شي في البيت زي ما هو إلا هالطاولة والحيط من وين أجن ، يا الله يا ربي سبحانك ، شو اللي بصير ؟!!!!
أصوات تهليل وتكبير عمت المكان ، حتى بعض الناشطين الأجانب سمعناهم يرددون الله أكبر !
فجأة يرن هاتف وائل الدحدوح المحمول …لم يكن هناك رقم ما ، ولكن لا بأس ، في ظرف كهذا عليك ان تنتظر دائما مكالمة من جندي مجهول :
- ألو
- ألو
- ألو ..ألو ….مين معي ؟
- وائل الدحدوح ؟
- إيه ، مين معي ؟
- معك تامر المسحال .
- تامر !
انفجر المكان ببهجة لا يمكن وصفها ، يا لهذه الغرفة العجيبة ، لقد اختصرت كل الانفعالات البشرية في قيامة واحدة : الحياة والموت ، البهجة والدهشة ، الحزن الألم ، المعجزة ، الغرابة ، اللذة ، اللغز ، الوثيقة ، الشعر ، القرآن ، الشهداء ، والمسك ، والجثث والدم ، القنبلة ، رنة الهاتف ، و ….تامر المسحال !
- تامر طمني أين أنت ؟
- لا تقلقلوا أنا بخير ، اسمع يا وائل ، قد لا تصدقني ولكن يجب أن تسمعني !
- أين أنت قل لي !
- اسمعني يا رجل سأخبرك على رسلك !
- قل ..
- لقد رأيت كل شيء ، كل شيء يا وائل ، رأيت ما لا يمكن للكاميرا أن تراه !
- ماذا ؟
- لقد رأيت الله !
- شو؟ وينك إنت من وين بتحكي ،و شو اللي بتحكيه !
- المقاومون السبعة يسلمون عليكم هذا أولا ، فالصهاينة لم يقتلوهم ، إنما شُبِّهَ المقاومون لهم !
- طيب وينكم ؟!
- المقاومون يرسلون لكم رسالة : اخبر الجزيرة ألا تستضيف أعداءنا ، فالعدو لا يمكن أن يكون شاهد عيان ، أو موثقا لجريمته ، أو محللا سياسيا للمجزرة ، العدو ليس طرفا أمينا ، والأمانة تقتضي أن لا نستأمنه على رأي ولا على فكر ، العدو لا يمكن أن يكون ضيفا نصنع به بطولات إعلامية فائضة عن حاجة البطولة ،أن تسال عدوك وتنتظر منه إجابة ما ، فهذا يعني أنك تعترف به كضيف ، أنك تقصيه عن ساحة مذابحه ، ومهمته الإجرامية ، لتنقله من غرفة العمليات العسكرية المكتظة بالوحوش إلى غرفة الأخبار بكامل أناقته ..الأمانة التوثيقية لا يمكن أن تستعين بالمجرم ليكتمل المشهد ، نحن في حرب التوثيق نحتاج إلى شهادة الشهيد لا شهادة القاتل !
- ولك وينك احكيلي ، طيب بس على الأقل أعطيني إشارة !
- قلت لك ، لقد رأيت الله …الكاميرا لا يمكن لها أن تصور ما نراه ، عيوننا في فلسطين هي الكاميرات الوحيدة في معركة الأبد ، وعيوننا لا تقوم بتحميض الصور ، أو بثها إنما تختزنها في مستودع الآلهة .
- تامر ..ألو ..ألو سامعني ، خليك معي !
- أسمعك جيدا …
- بصراحة أنا لا أستطيع أن أفهم ما تقوله ، يبدو ملغزا غامضا ..لا أدري !
- عزيزي وائل علي أن أذهب إلى عملي الآن ، هناك تقرير مهم يجب أن أعده في السماء ..فإلى اللقاء !

1