أحدث الأخبار
الخميس 09 كانون ثاني/يناير 2025
«إسرائيل الدولة» هي الجندي الفار من العدالة!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 09.01.2025

عاد إلى إسرائيل، أمس الأربعاء، الجندي يوفال فاجداني، الذي فرّ من البرازيل، بعد أن أصدرت إحدى محاكمها قرارا بإجراء التحقيق معه بشبهة ارتكاب جرائم حرب في غزّة. وفور وصوله أجرت معه الإذاعة الإسرائيلية لقاءّ، سرد فيه قصة هروبه إلى الأرجنتين، بعد تلقّيه تحذيرا من وزارة الخارجية الإسرائيلية، بأن عليه الإسراع في الفرار إلى مكان آمن، خشية أن تقوم الشرطة البرازيلية باعتقاله. وقال فاجداني إنّ شرطة المطارات البرازيلية احتجزته لمدة قصيرة بسبب وجود «علامة ما» عند اسمه في حاسوب المطار، ثم أطلقت سراحه وسمحت له بالصعود إلى الطائرة المتجهة إلى بيونس أيريس، ما يشير إلى أنه لم يكن هناك أمر اعتقال، أو أمر بمنع المغادرة بحقّه، وإلّا لاعتقل فورا، وما يدل على أن المخابرات الإسرائيلية، التي أرشدته للخروج من البرازيل عبر هذا المطار، كانت على ثقة بأنّه لن يعتقل.
وقد أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن هذه كانت المرّة الخامسة التي يجري فيها تهريب جنود إسرائيليين من دول مختلفة، بعد فتح إجراءات قضائية ضدهم. وربما يعود النجاح في الفرار من العدالة إلى اتصالات سرية إسرائيلية مع جهات مسؤولة في هذه الدول، أو إلى عدم استصدار أمر «منع مغادرة البلاد» أولا. وقد أشارت تقارير إسرائيلية إلى أن نشر أسماء الجنود عند بدء الإجراءات ضدهم، ساعد إسرائيل في العثور عليهم وفي تهريبهم خلسة. ولكن في الحادثة الأخيرة في البرازيل، لم ينشر اسم الجندي، ولكن جرى نشر قرار التحقيق مع «جندي إسرائيلي» في البرازيل ما أعطى مجالا للتعرف على هويته ونقله بسرعة إلى الأرجنتين.
*الملاحقة الجنائية هي إحدى الوسائل المهمة لمواجهة الجرائم الإسرائيلية المستمرة والمتواصلة، وهي ما زالت في بداياتها وفي تزايد حجما وسعة
من حيث الأدلة، قدّم «صندوق هند رجب»، الذي رفع الدعوى ضد الجندي الإسرائيلي حوالي 500 صفحة من الأدلة الموثّقة، تنطلق من أن البرازيل عضو في محكمة الجنايات الدولية وملزمة بميثاق روما، وتستند إلى معلومات علنية منها، أشرطة فيديو نشرها المتهم، وظهر في أحدها وهو يقهقه فرحا مع زملائه عند قيامه بتدمير مجموعة من المباني في غزة، بعد أن ضغط على زر التفجير. ويبدو أن الدعوى جدية وترمي إلى الإيفاء بمعايير المادة 66 من نظام روما الأساسي بشأن جرائم الحرب، التي تنص على أنه «لكي تدين المحكمة المتهم يجب أن تكون مقتنعة بأنّه مذنب فوق أي شكل معقول»، وهذا هو مبدأ المقاضاة الجنائي في معظم دول العالم بما فيها البرازيل. ولعل الذعر الإسرائيلي، وعلى أعلى المستويات، ينبع من معرفة ما فعله هذا الجندي وغيره، ومن توفّر عناصر الإدانة الثلاثة: السياقية والمادية والمعنوية للجريمة، إضافة إلى شکل مسؤولية المتهم. ويبدو أن الملف كان جاهزا، وفي اللحظة التي نشر فيها هذا الجندي على وسائل التواصل الاجتماعي أنه في البرازيل، سارع ناشطو حملة الملاحقة إلى التوجه للمحكمة لاصطياده في البرازيل.
لقد حققت حملة ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين إنجازات مهمة في الفترة الأخيرة، لكنها تبقى محدودة أمام الضخامة الفظيعة للجريمة المتواصلة في غزّة. إن اصطياد مجرمي الحرب ليست مسألة سهلة لأن الدولة الصهيونية تقوم بجهود كبيرة جدا وترصد موارد بشرية ومالية وسياسية ومخابراتية كبيرة جدا لمنع اعتقال أي من الضباط أو الجنود الإسرائيليين وتقديمهم للعدالة. هذه الجهود، لا تزيد من طمأنة الإسرائيليين، بل تثير المزيد من الذعر لدى المشاركين في حرب الإبادة الجماعية في غزّة، وهي تضع إسرائيل في مكانها الحقيقي: «المجرم الفار من العدالة». يصل عدد المتورّطين في حرب الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزّة إلى عشرات الآلاف في أقل تقدير. ومنهم القيادات السياسية والعسكرية والمخابراتية والضباط والجنود وحتى الصحافيين، وهناك كم هائل من الأدلة المباشرة الدامغة ضد الآلاف منهم، وإذا توفّرت الموارد والطاقات، يمكن جمع وتوثيق وتصنيف المعلومات. فالجنود الإسرائيليون ينشرون يوميا آلاف الفيديوهات حول «نشاطهم» العسكري في غزة والضفة ولبنان، متباهين بجرائمهم فرحين بارتكابها. وهناك أيضا أدلة واضحة ضد من هم ليسوا جنودا، ولكنهم شاركوا في ارتكاب جرائم الحرب بشكل فعلي. في مقال له قبل الأسبوع الماضي على موقع «نوفاراميديا»، وصف أستاذ القانون الدولي، روب هاوز، ما يحدث في غزة بأنه جحيم أخلاقي وكتب بأنّه «ما من مفهوم لجرم قانوني يمكن أن يستوعب في طيّاته فظاعات غزة. إنها أكثر من إبادة جماعية ـ هي القتل ببهجة وبلا كوابح». مضيفا: «هذه ليست إبادة جماعية فحسب، بل هي أيضا «إبادة للقوانين» ـ تدمير كافة القيود القانونية في الحروب». والواقع أن هناك فهما دوليا متزايدة بأن القضية ليست «مشكلة الفلسطينيين» وحدهم، لأن إسرائيل تجاوزت حدود استعمال القوة والعنف كافة، ما يفتح الباب أمام المجرمين لتقليد الدولة الصهيونية، التي تحتل اليوم مكانة المجرم رقم واحد في العالم، وهذا يعرّض شعوب أخرى لمخاطر كبيرة.
خط الدفاع الإسرائيلي
كانت الضربة الكبرى بالنسبة لإسرائيل في مجال الملاحقة الجنائية الدولية هي صدور أمري اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. وقد أشعلت هذه الخطوة ضوءاً أحمر في وجه القيادة الإسرائيلية، التي أدركت أن الموضوع أصبح جديا وأن الملاحقة الجنائية ستطال المتورطين في ارتكاب جرائم الحرب على كل المستويات من وزراء وجنرالات وضباط ميدانيين وجنود. وفي هجومها المضاد على المحكمة الجنائية الدولية شنت إسرائيل حملة لتشويه سمعتها وسمعة المدعي العام كريم خان، وبموازاة ذلك حثت الإدارة الأمريكية والكونغرس على الضغط على المحكمة، ويبدو أن الولايات المتحدة ستتخذ قريبا إجراءات عقابية ضد المحكمة والمدعي العام الدولي، خدمة لحليفتها إسرائيل، من جهة ولمنع تطبيق القانون الدولي ضد «أصدقاء أمريكا» وحصر تنفيذه ضد مناوئيها فقط.
إسرائيل تطلب من الولايات المتحدة أكثر من ذلك، وتدعوها إلى تهديد دول العالم بفرض عقوبات عليها إن هي سمحت لقضائها المحلي باعتقال ومحاكمة مجرمي حرب إسرائيليين. وإضافة إلى اللجوء المعتاد إلى طلب الحماية الأمريكية، جهّزت إسرائيل خطوط دفاع لحماية جنودها وقياداتها من الملاحقة القضائية في دول العالم المختلفة، ومن اهم هذه الإجراءات:
أولا، إصدار تعليمات للجنود بعدم نشر أشرطة فيديو عن العمل العسكري الميداني بشكل مطلق، وبمحو ما نشر سابقا منها. وطلب من الجنود استشارة وحداتهم ووزارة الخارجية الإسرائيلية قبل السفر إلى الخارج لمعرفة المخاطر المحتملة والتصرف تبعا لذلك. كما شملت التعليمات عدم نشر أي تفاصيل عن الرحلة الخارج إلى حين العودة من السفر.
ثانيا، تحديد الدول «الخطيرة»: جنوب إفريقيا وإيرلندا وبلجيكا وإسبانيا والبرازيل، التي يستوجب السفر إليها خطوات حذر خاصة.
ثالثا، تشكيل طواقم من المحامين تتولى الدفاع عن الجنود وإرشادهم حول طرق الإفلات من القضاء في مختلف دول العالم، وتُعد كذلك مسحا للحالة القضائية في كل بلد وبلد بخصوص إمكانية الاعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
رابعا، إقامة غرفة عمليات خاصة في وزارة الخارجية بمشاركة الجيش والمخابرات لمتابعة التطوّرات والاتصال بالجنود المسافرين عند الضرورة وللعمل على إفلاتهم من العقاب.
خامسا، شن حملة إعلامية ودبلوماسية ضد الجهات التي تقوم بملاحقة الجنود الإسرائيليين واتهامها بما يسمّى «الإرهاب القضائي».
سادسا، إجراء اتصالات مكثفة مع دول يسافر إليها الإسرائيليون، لضمان عدم تعرّضهم للاعتقال والمحاكمة. وقد قدمت إلى الآن دعوات ضد مجرمي حرب إسرائيليين في 13 دولة هي: المغرب وبلجيكا وقبرص وسيرلانكا وهولندا والبرازيل وتايلند وإيرلندا وصربيا وجنوب افريقيا وفرنسا والنرويج والأرجنتين. وفي خمس دول تم تهريب جنود إسرائيليين، قبل أن تتخذ قرارات بشأن اعتقالهم.
سابعا، الادعاء بأن إسرائيل تحقق في الجرائم وبأن لديها قضاء مستقلا ونزيها. ويستغل المنافقون في الغرب هذا الادعاء في الدفاع عن إسرائيل وعن أن مبدأ «الاستكمال» في القانون الدولي يعمل في صالحها.
إن الملاحقة الجنائية هي إحدى الوسائل المهمة لمواجهة الجرائم الإسرائيلية المستمرة والمتواصلة، وهي ما زالت في بداياتها وفي تزايد حجما وسعة. ومجال التوسيع كبير جدا، فهناك أكثر من مليون إسرائيلي يحملون جنسية مزدوجة، ويمكن محاكمتهم في الدول التي يحملون جنسيتها. وهناك 120 دولة وقّعت على ميثاق روما ويمكن من حيث المبدأ التوجه للقضاء فيها. أمّا المتهمون فهم يعدّون بعشرات الآلاف، جلّهم، وليس كلّهم، من الجنود. ومنهم مثلا الصحافي الإسرائيلي البارز، داني كوشمارو، مقدم النشرة الإخبارية في القناة 12، الذي ضغط مبتهجا بأصبعه أمام الكاميرات، على زر تفجير مبان في الجنوب اللبناني. وما فعله هذا الصحافي يمثّل دور الإعلام الإسرائيلي في الحرب، التي تجنّد لها بالكامل، وكان داعما لحرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل. المسألة ليست الجنود وحدهم، بل دولة بأكملها. لا تحسم هذه المعركة بالضربة القاضية، بل بالنقاط، التي يجب مراكمتها حتى تبلغ العدالة غايتها في كل زمان ومكان، بما فيها الزمكان الفلسطيني.

1