أحدث الأخبار
السبت 07 كانون أول/ديسمبر 2024
هل سمعتم بالتقشير الحضاري؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 13.07.2024

يُحكى أن شاباً من إحدى القرى ذهب للدراسة في المدينة، وكان يجلب معه بين الحين والآخر إلى المدرسة عنقوداً من العنب، وكان يعطي قسماً منه لأحد زملائه في الصف، وكان زميله يسأله دائماً: هل فعلاً تقطف العنب من شجرة؟
فكان ابن القرية يؤكد له ذلك المرة تلو الأخرى بأن العناقيد تتدلى من دالية، لكن ابن المدينة كان يشكك دائماً، ولا يصدق أن مثل هذه الفاكهة الطيبة يمكن أن تكون ثمرة دالية، فقرر زميله أن يدعوه ذات يوم إلى القرية ليشاهد بأم عينيه كيف ينمو العنب، وفعلاً جاء الشاب إلى القرية ودخل مع صديقه إلى كرم عنب كبير، فشاهد مئات العناقيد المتدلية من الداليات، فسأل زميله ابن القرية، هل يمكن لي أن آكل عنقوداً، فقال له: بإمكانك أن تأكل ما تريد، لكن دعني أسأل أخي أولاً، فهو صاحب البستان، فاتصل بأخيه وقال له إن زميله ابن المدينة يريد أن يأكل العنب، فقال أخوه: دعه يأكل حتى يبدأ بالتقشير، فسأله وماذا تعني بالتقشير، فقال الأخ: دعه يتناول كمية كبيرة من العناقيد حتى يُصاب بالتخمة، ويضطر حينها إلى أن يتسلى بتقشير حبات العنب بعد أن يكون قد شبع تماماً.
تذكرت هذه الحكاية، خلال جولة في عدد من البلدان الغربية، حيث استمعت من أحد المهتمين بالحياة الأوروبية إلى قصص عجيبة غريبة حول ما أسماها بمرحلة «التقشير» التي وصلت إليها بعض المجتمعات هناك. لسنا هنا طبعاً بصدد تقشير العنب، بل بما أسماه صاحبنا عالم الأجنة الدكتور علاء الدين العلي بظاهرة (التقشير الحضاري). وقد لاحظ الدكتور العلي من خلال اختلاطه بالطبقات العلمية والطبية والاجتماعية في ألمانيا مثلاً أن تلك المجتمعات وصلت إلى ما يشبه مرحلة التخمة التي شعر بها ابن المدينة عندما زار زميله في القرية وتناول كميات كبيرة من العنب جعلته في النهاية يلجأ إلى التسلي بتقشير الحبات بعد أن وصل إلى ما يمكن تسميته ما بعد الشبع.
ويذكر الدكتور في هذا السياق أن أحد أصدقائه جاء إلى ألمانيا بهدف الاستثمار، فاشترى قطعة أرض كبيرة لينشأ فوقها عدة مبان، لكن عندما قدم طلباً للحصول على رخصة بناء من البلدية، جاءت لجنة لفحص الأرض، فوجدت فيها أوكاراً عدة للنمل، وهنا بدأت التعقيدات تتزايد في وجه المستثمر العربي، حيث أخبرته البلدية أن الأرض التي سيبني عليها بعض العمارات فيها أنواع مختلفة من النمل، وبالتالي لا بد من تأمين سلامة النمل الجسدية والنفسية قبل البدء بعمليات البناء، فظن المستثمر أنها نكتة، لكنه تأكد لاحقاً أن البلدية لم تكن تمزح معه، بل لديها الكثير من الاعتراضات قبل أن تمنحه الموافقة، وفعلاً أرسلت إلى الأرض خبيراً بعلم نفس النمل ليدرس كيف سيكون وضع النمل فيما لو بنى المستثمر بنايات على تلك القطعة، وكيف سيتأثر النمل بعد ذلك. هل سيتضرر نفسياً وجسدياً؟ وفعلاً طلبت البلدية من المستثمر أن يرسل لها بعض مواد البناء التي سيستخدمها كي تتأكد أنها لن تكون ضارة أو سامة لأوكار النمل في تلك القطعة من الأرض. وبعد انتظار طويل وأخذ ورد قرر المستثمر أن يتخلى عن المشروع بعد أن أزعجته البلدية بشروطها الكثيرة والقاسية للحفاظ على صحة النمل الجسدية والنفسية.
وفي حادثة أخرى، اشترت إحدى الجهات عمارة قديمة في ألمانيا لتحويلها إلى مستشفى، لكنها اكتشفت أن هناك عشرات الأعشاش لطير الخفاش، وأن عملية البناء ستؤثر كثيراً على حياة الخفافيش. وقد تدخل حزب الخضر بكامل قوته ليمنع المشروع بسبب أضراره الكثيرة على أعشاش الوطاويط.
لم يتوقف الألمان فقط عند تعطيل مشاريع عدة حفاظاً على حياة النمل والخفافيش، بل ذهبوا أبعد من ذلك بكثير في عملية (التقشير الحضاري). هل تعلمون مثلاً أن الذئاب في ألمانيا معرضة للانقراض وأن السلطات الألمانية تخصص سنوياً ميزانية هائلة للحفاظ على الذئاب؟ تصوروا أن لديها أسطولاً من الطائرات المروحية مهمته أن يطير بين الحين والآخر فوق مناطق الذئاب، ليرمي لها مئات الكيلوغرامات من اللحوم كي تبقى على قيد الحياة. وتبلغ تكلفة إقلاع كل طائرة آلاف اليوروهات، ناهيك عن تكلفة اللحوم والطيور التي تشحنها إلى الذئاب. والأغرب من ذلك أن هناك أطباء ومختصين وظيفتهم مراقبة عمليات التكاثر لدى قطعان الذئاب، وهم يعرفون عدد الذئبات الحاملات، ومتى ستكون عمليات الولادة لدى كل ذئبة حامل.
نعم إنه (التقشير الحضاري) فبعد أن وصلت تلك المجتمعات إلى حد التخمة الحضارية على كل الأصعدة تقريباً، صارت مثل صاحبنا الذي بدأ يقشر العنب بعد أن شبع تماماً. والسؤال يا ترى، كم نحتاج نحن العرب كي نشبع أولاً؟

1