أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
هذا ما سيذكره التاريخ فقط!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 22.03.2024

صحيح أن التاريخ يكتبه البشر، وهو في نهاية المطاف صناعة بشرية له ما له وعليه ما عليه، وفي أغلب الأحيان ينظر البشر إلى التاريخ بعين الشك والريبة، لأنه في العادة يكون مكتوباً ومدوناً حسب رغبة كاتبيه ومدونيه. ولطالما مثلاً سمعنا عبارة أن «التاريخ يكتبه المنتصرون» فتبرز في كتب التاريخ فقط رواية المنتصر، بينما يضيع حق الآخرين، لهذا نرى شاعراً كبيراً كمعروف الرصافي ينسف التاريخ من أساسه قائلاً: «ما كُتبُ التاريخ في كل ما روَت لقرَّائها إلا حديثٌ ملفَّقُ! نظرنا لأمر الحاضرين فرابَنا فكيف بأمر الغابرين نصدِّقُ؟!» والرصافي لا شك محق في ملاحظته الرائعة، فالتاريخ اليوم يُزوّر أمام أعيننا، فما بالك أن نصدق أحداثاً وقعت قبل آلاف السنين، لا بل إن المؤرخين أنفسهم غالباً ما يدونون الأحداث التاريخية من وجهة نظر خاصة جداً، لهذا يقول المؤرخ البريطاني هنري كار: «قبل أن تقرأ التاريخ اقرأ عن المؤرخ، وقبل أن تقرأ عن المؤرخ، اقرأ عن خلفيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والدينية والفلسفية». بعبارة أخرى، فإن كل مؤرخ يُضفي على التاريخ نظرته الخاصة، أضف إلى ذلك أن الإنسان بطبعه يرى الأمور من زوايا حادة، فلو مثلاً وقع حادث شجار أمام بيتك، وهُرع سكان الحي إلى مكان العراك، ثم عادوا ليتحدثوا عن الواقعة، فستجد أن كل واحد يرويها بشكل مختلف. ولا ننسى أن رواية التاريخ عن مصادر متسلسلة بدورها تزيد الطين بلة، فيصلنا التاريخ مشوهاً ومحوراً وأحياناً مزوراً. وهنا نستذكر لعبة (الهمسة الصينية) وهي عبارة عن (حدوتة) قصيرة يرويها أول شخص في طابور طويل للشخص الذي يصطف وراء، وهو بدوره يرويها للذي بعده، وهلم جرّا، فتصل (الحدوتة) للشخص في آخر الطابور محرفة ومختلفة تماماً عن الحدوتة التي رواها أول شخص في الطابور. وبالتالي، هل يمكن أن تصدقوا أحداثاً وروايات وأحاديث وقصصاً نقلها آلاف الأشخاص عن آلاف الأشخاص عن آلاف الأشخاص عبر القرون؟
لا شك أن هذا يؤثر سلبياً على مصداقية التاريخ والمؤرخين كثيراً مهما امتلكوا من أساليب علمية وتوثيقية في تدوين الأحداث التاريخية. لكن بالرغم من كل مشاكل الرواية التاريخية وآفاتها، فإن هناك جانباً مثيراً للاهتمام في غربال التاريخ، وهو أنه غالباً ما يبدو زاهداً جداً بالجانب المادي للأزمنة التي يؤرخها، لهذا تراه لا يعطيه اهتماماً كبيراً بين صفحاته، وحتى لو تحدث أحياناً عن الرفاهيات والممتلكات المادية لشخصياته، فإنه في أغلب الأحيان لا يركز عليها كثيراً ولا يعتبرها جديرة بالتأريخ، حتى أن القارئ نفسه لا تعنيه التفاصيل المادية المبهرة كثيراً وهو يقرأ التاريخ. أيهما أكثر أهمية بالنسبة لك وأنت تقرأ التاريخ مثلاً: ثروات هارون الرشيد أم مآثره وأفعاله؟ أيهما أهم أن تقرأ عن ممتلكات الحاكم بأمر الله، أم عماذا فعله وأنجزه في مصر أيام حكمه في العصر الفاطمي؟
من الملفت جداً وفي أغلب الأحيان أن المؤرخين يتجاهلون الوضع المادي للعديد من الشخصيات التاريخية، فلا يذكرون مثلاً كم كان يمتلك ذلك المفكر العظيم من الأموال والممتلكات، ولا كم كان يملك ذلك الفيلسوف أو الشاعر من عقارات، ولا كم كان يملك ذلك الفنان أو الرسام من أرزاق. حتى أن التاريخ لا يذكّرنا بميراث الملوك والأباطرة إلا نادراً. لا يبقى في غربال التاريخ سوى الأعمال الفكرية والفنية والكتب والمؤلفات والإنجازات والأقوال والأفكار واللوحات التي تركتها الشخصيات التاريخية وراءها، وكأنه يقول لنا إن لا محل من الإعراب لقصوركم وملايينكم وملياراتكم وحساباتكم البنكية وسياراتكم وساعاتكم الثمينة ومجوهراتكم وخيولكم، فكلها تسقط من ثقوب الغربال التاريخي، ولا يبقى منكم سوى أعمالكم وما يؤثر بالأجيال القادمة من فكر وأدب وكتب ودواوين وفلسفات، ومآثر ومفاخر، واختراعات، واكتشافات؟ هل قرأتم في كتب التاريخ يوماً كم كان يملك أبو العلاء المعري، أو سبينوزا، أو تولوستوي، أو تسلا، أو أينشتاين، أو ستالين، أو الاسكندر المقدوني، أو بيتهوفن، أو غاليليو، أو المعتزلة؟ هل عندما سنقرأ سيرة بوب غوبز مخترع الآيفون لاحقاً، هل سنكون مهتمين بأنه كان يملك أكثر من ملياري دولار قبل أن يموت، أم إن جُل اهتمامنا سيتركز عي قيمته التكنولوجية العظيمة واختراعات شركة (آبل) التاريخية. وحتى لو ذكر التاريخ الجانب المادي لشخصياته، فإنه يذكرها بشكل عابر، بحيث لا تلفت انتباه القارئ كثيراً، وكأنها بلا قيمة. هل قرأتم تفاصيل كثيرة مثلاً عن منزل العالم البريطاني داروين؟ بالطبع لا، ولولا المهتمون بالسياحة والاستثمار لضاع بيت داروين، لكنهم استثمروه لاحقاً لأغراض سياحية واستثمارية. صحيح أن التاريخ ذكر مال قارون مثلاً، لكن أيضاً ليس لإبراز عظمة قارون المالية والمادية، بل لحكمة ربانية دينية فقط. وعندما يذكر التاريخ القصور التي خلفها الحكام، فليس اهتماماً بممتلكاتهم وثرواتهم، بل تخليداً لما أنجزوه من تحف معمارية جديرة بتنويه تاريخي إما لجمالها، أو لعظمتها الذاتية، أو أحياناً لانتقاد صاحبها، وليس لإبراز الجانب المادي لهذا الملك أو ذاك.
ومن جماليات التاريخ أيضاً أنه يُفرد الكثير من صفحاته لشخصيات عاشت وماتت فقيرة من دون أي جاه أو عز أو مجد مادي، مما يؤكد على زُهد التاريخ التأريخي، فمثلاً فإن الرسام الهولندي التاريخي فان كوخ عاش حياة بائسة جداً، وكان معوّزاً جداً مادياً، ومات دون أن ينعم بأرباح لوحاته العظيمة التي بيعت بعد موته بملايين الدولارات، لكن فقر فان كوخ لم يؤثر على مكانته التاريخية في صفحات التاريخ. وكذلك بدر شاكر السياب الشاعر المُعدم، فلم تؤثر تعاسته المادية على مجده الشعري. وكيف ننسى العالم العظيم نيكولا تسلا، صاحب العديد من الاختراعات العظيمة التي غيرت وجه العالم، فقد مات فقيراً معدماً، لكنه يتربع اليوم على عرش تاريخ العلوم مثل أينشتاين وبقية العلماء العظام الذين ماتوا فقراء معدمين، لكنهم اليوم يملؤون الدنيا ويشغلون العالم بعد وفاتهم. ومن دهاء التاريخ أنه لم يركز مثلاً كثيراً على الخلفية الأرستقراطية للأديب الروسي الكبير تولوستوي، لكنه أبرز تخلي الروائي الكبير عن حياة الترف والبذخ ليعيش بسيطاً مرتحلاً، وكأن التاريخ هنا أيضاً يضع تولوستوي في غربال، فيسقط من الغربال كل ما يتعلق بخلفيته الارستقراطية المادية، ويبق فقط ميراثه الأدبي العظيم.

1