أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
الفلسطيني:ذاكرة جمعية، فوعي، فمقاومة !!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 05.02.2023

يولد العربي الفلسطيني بذاكرة بيضاء خالية تماما، كغيره من الأطفال في هذا العالم، ولذا فهي جاهزة لأن تغتني بما تعيشه في رحلتها الحياتية مهما امتدت، أو قصرت.
وما يميّز ذاكرة الفلسطيني أنها تبدأ في تلقي ما يغنيها مما لم تعشه، ولكن مما عاشه شعب فلسطين الذي تنتمي له، والذي لذاكرته، وذاكرة كل فرد من أفراده، خصوصية فردية تميّزه، وتحفظ له سمات خاصة، بحسب عمره، ومكان ولادته، وتاريخ ولاته، وتربيته الشخصية، ومسار حياته، وتجربته الشخصية الحياتية، ومستواه الثقافي، وما يعتنقه من أفكار.
من ولدوا على مقربة من نكبة فلسطين وشعب فلسطين عام 1948انفتحت ذاكرتهم على قسوة واقع دهمهم: اقتلاع من قراهم ومدنهم، ورميهم في غربة لئيمة شديدة القسوة، فامتلأت نفوسهم بالألم، وتفجّرت الأسئلة في عقولهم بتلقائية ودون افتعال، لأنهم لا يعرفون الأجوبة، ولا مسببات الحياة الغريبة الرهيبة التي رموا فيها، وابتلوا بالجوع والعري والذهول مما يحيط بهم...
من تجربتي الشخصية، ولأنني لا أنظّر، فإنني قد بدأت بإدراك أن عدوا يطاردنا لأسباب لا أعرفها، ولا أدركها، ولا أي سبب لها.
كنت في السادسة، ورأيت ناسا يصرخون خائفين، ويركضون في الكروم المحيطة بقرية ذكرين مسقط رأسي: أجو اليهود...
من هم أولئك اليهود الذين انتزعونا من طفولتنا البريئة الوادعة؟ لماذا
يهرب أهلنا بنا منهم، وما هي الرشاشات التي تدوّي حول القرية؟ وإلى أين يهرب أهلنا بنا؟
أسئلة مُحيّرة لا إجابات عليها، اقتحمت ذاكرتنا منذ الطفولة، كأفراد، وكشعب فلسطيني، وهكذا بدأت رحلة الأسئلة والوعي، محمولة على صرخات من خسروا بعض أفراد أُسرهم، وهدّمت بيوتهم فوق رؤوسهم، واقتلعوا من قراهم ومدنهم، وهاموا مشردين لا وجهات محددة تمنحهم النجاة بعيدة، أو قريبة.
في الليل، اختبأت النساء في واد لا أدري كم عمقه، وكنا عطاشى، وجاء بعض الرجال بأوان فيها ماء، وشربنا وبقينا في العراء..واكتشفنا أن الرجال والشباب ليسوا معنا، فهم لم يلوذوا بالفرار من اليهود، بل بقوا في القرية ليقاوموا.
لم تتفتح الذاكرة بشكل طبيعي، كما ذاكرات الأطفال الذين لم يهاجم أولئك اليهود قراهم، ومع الوقت، والأيام التي دوّى فيها الرصاص الذي أصابنا بالرعب، وإن كنا لا نعرف ما هو الرصاص، لأننا لم نسمعه من قبل، ثُمّ عرفنا أنه يقتل، يخترق الجسد ويسيل الدم، ويُميت..وهكذا كثرت الأسئلة وتزاحمت في رؤوسنا.
رأيت في القرية شابا يركض رافعا بندقيته وهو ينادي: عليهم..عليهم، وبعد وقت لا أدري كم امتد رأيته ممددا في( الدسكرة) نقّالة الموتى،وكأنه نائم، ولكنه لم يكن نائما. درت حول الدسكرة المرفوعة عن الأرض بأربع قوائم، ولم أفهم شيئا،ثمّ عرفت أنه محمود ابن الشيخ سالم...
كان ذاك هو أوّل شهيد في قريتنا، والشهادة تختلف عن الموت، وهذا ما عرفته بعد سنوات في مخيّم الدهيشة، بعدما كبرت سنتين.
افتتحت ذاكرة الطفل الفلسطيني بالطائرة التي لاحقتنا في الليل، وكانت تصدر صوتا مخيفا، وعينها تخفق في الفضاء وهي تجوس في العتمة بحثا عنّا، بينما نحن نلتصق بالأرض لعلها تحمينا، وندفن وجوهنا حتى لا نرى ما يطارنا مرسلاً صوته المتوعّد...
ذكريات تلك الأيام لم تكن تخصني وحدي كطفل فلسطيني، بل كانت تستوطن ذاكرات ألوف الأطفال الفلسطينيين، بل والأشخاص الكبار.
من طاردونا هدفوا أن يكشطونا عن وجه الأرض، وأن يحضروا ليستولوا على كل شئ، ولقد حكموا على جيل الآباء والأمهات بأن يندثروا في الشتات، وعلى جيلنا والأجيال التي ستتوالد من بعدنا على الذوبان والنسيان، وهكذا ستخلو فلسطين لهم، وستنتهي الحرب، ويرتاح رّب الجنود...
هذا الرهان الصهيوني فشل تماما، فالآباء والأمهات زرعوا فينا الانتماء، وعرّفونا بقرانا، وكرومنا، وما كانوا يزرعون، وبأغانيهم في الحصاد، بالأبطال الذين قاتلوا الإنقليز منذ احتلوا بلادنا، والمعارك الأولى مع اليهود الغزاة...
في المدارس، في المخيمات الأولى، ملأ أساتذتنا نفوسنا وعقولنا بالانتماء والإرادة: تعلموا لتحرروا فلسطين، ولتعودوا إلى مدنكم وقراكم، وتطردوا اليهود من بلادنأ...
ثمّ اتسعت معرفتنا، مع تقدمنا في الأعمار والتحصيل، ومتابعة ما يحدث في مخيماتنا. لقد انتبهنا مبكرا إلى أن المنتمين لأي قرية يقيمون متجاورين ليحافظوا على خصوصيتهم، وأن المخيمات تقع على الطرق المعبدة، وكأن سكانها سيقفزون عند دعوتهم للعودة، وفي تلك البيئة كنا نحن الصغار نحكي لبعضنا عن قرانا وكأننا نعرف تفاصيلها، بل ونحكي عن القرى المجاورة وكأننا عشنا فيها.
لقد فشل رهان اليهود في مسح ذاكرتنا كأجيال تولد في الشتات، لأن أولئك اليهود لم يتوقعوا امتلاء ذاكرة تلك الأجيال بتفاصيل قراهم ومدنهم وتاريخهم وتراثهم، وقفزوا عن أن الفلسطينيين عرب يعيشون في وطنهم العربي، وأن من بقوا في فلسطين بقوا في وطنهم وبيئتهم، وأنهم يتزايدون، ويقاومون عمليات تغيير هويتهم الوطنية والقومية، ويتشبثون بخصوصيتهم ويرفضون تغييرها والمس بها...
لقد تحوّل الفلسطينيون في الوطن العربي الكبير إلى خميرة للوعي والمعرفة بانخراطهم في التعليم والعمل، فنشروا الوعي بقضية فلسطين، وبأن المشروع الصهيوني يتهدد كل الوطن العربي مشرقا ومغربا، وانه يُكرّس التجزئة والتخلّف والتبعية لديمومة نهب خيرات وثروات الأقطار العربية.
وهكذا انتقل عرب فلسطين بقضيتهم إلى ملايين العرب، عن طريق التعليم، والصحافة، والثقافة السياسية، والانخراط في الحركات الحزبيّة والسياسية القومية والتقدميّة، وتحملوا نصيبهم في معركة الوعي، وتحديد أعداء فلسطين، وطبيعة تحالفهم المعادي لمحاولة نهوض الأمة العربية، وتبني قضية فلسطين كقضية قومية جوهرية كون زرع الكيان الصهيوني يمزق وحدة الأمة العربية، لذا ففلسطين قضية قومية أُولى لا إقليمية.
قبل سنوات وجدت تعريفا للثقافة يقول بأنها تعني الكرامة الإنسانية، وقد استخلص الباحث هذا التعريف بعد اطلاعه على ما فعله الإسبان الغزاة في مواطني تلك البلاد الأصليين، وكيف تفتقت عقليتهم الإستعمارية لتغريب أصحاب البلاد الأصليين عن تراثهم بتعليمهم اللغة الإسبانية ، وبعد سنوات انبتّوا عن تراثهم وثقافتهم المحلية، وباتوا ممسوخين بلا هوية ولا انتماء ولا ذاكرة جمعيّة!
على ماذا راهنت الصهيونية وهي تؤسس مشروعها على أرض فلسطين؟
مارست الحصار والعزلة على الفلسطينيين الذين لم يغادروا فلسطين المحتلة عام 48، وضيّقت عليهم سبل العيش حتى ييأسوا و..يغادروا، أو يذوبوا ويندمجوا ويرضوا بمصيرهم في الكيان الصهيوني.
وماذا عن عرب فلسطين الذين باتوا نتيجة للنكبة تحت الخيام؟
لم يسمح لهم بمواصلة المقاومة للكيان الصهيوني، وسيخضعون ويخنعون!
لكن العرب الفلسطينيين تجاوزا حقبة النكبة، وباتوا فاعلين ومتفاعلين في الوطن العربي الكبير...
الفلسطينيون توجهوا للتعليم، وبه ردّوا على النكبة، ومحاولات المسخ، ونشروا التعليم في عديد الأقطار العربيّة، وأغنوا الذاكرة العربية بكل ما تمثله فلسطين، بدءا من المعارك العظمى التي حررت قلب الوطن العربي من الغزو الصليبي، المغولي، والبريطاني الذي جاء في العصر الحديث، وتقاسم الاحتلال للمشرق العربي مع الإمبريالية الفرنسية: سايكس بيكو، وبهذا نفذت الإمبراطورية البريطانية وعد بلفور عمليا بزرع الكيان الصهيوني في قلب فلسطين.
عن دور المثقفين الفلسطينيين:
لعب المثقفون الفلسطينيون دورا بارزا، وما زالوا، في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية، والأدوار التي مرّت بها، وأسهموا في يقظة شعبهم،وتعميق وعيه بقضيته، وأثروا في الحركات السياسية العربيّة، وانخرطوا في صفوفها، وأكدوا باستمرار على أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية قومية بامتياز، وأنه لا نهوض للأمة بغير تحرير فلسطين.
يمكن القول أن الثقافة الثورية التي انتشرت في وعي عرب فلسطين حيثما كانوا قد زادت من صلابته، ومنحته الثقة، ومكنته من تجاوز كل محاولات تزوير وعيه، وزرع الإحباط في نفوس ملايينه المنتشرة قريبا وبعيدا من فلسطين.
كل مخططات الحركة الصهيونية المرعيّة والمدعومة بريطانيا وأمريكيا فشلت في تيئيس عرب فلسطين ودفعهم للتقاعس عن مواصلة المقاومة والذوبان تحت الاحتلال، وفي البلاد العربيّة القريبة والبعيدة...
أوّد أن أنبه إلى أن عرب فلسطين خاضوا كل معاركهم بعد ألنكبة بجزء من قوتهم وقدراتهم، وأنهم حُرموا من زّج كل طاقاتهم في المواجهة مع عدوهم الكيان الصهيوني المحتضن والمدعوم عسكريا واقتصاديا وديبلوماسيا أمريكيا، ومن كل قوى الغرب الإستعماري، و..بالتخاذل والتواطؤ العربي الرسمي.
مائة عام وأزيد وعرب فلسطين يقاتلون، ومعهم شرفاء العرب، وأكبر ثوراتهم في سورية الجنوبية،فلسطين، قادها عرب: الشيخ الشهيد عز الدين القسّام، والقائد الفذ الشهيد سعيد العاص ..وهما استشهدا على ثرى فلسطين.
درس قريب من جيل رابع لما بعد نكبة ال48.
يوم 26 يناير هاجم جيش الاحتلال مخيم جنين البطل، وبعد اشتباكات سقط من الفلسطينيين تسعة شهداء، فتجرعنا حزننا وغضبنا، وقلنا: الرّد قادم..وقد جاء الرد الصاعق بعد ساعات في قلب القدس، ومن فتى من فتيانها،خيري علقم، ابن الحادية والعشرين، والذي حمل اسم جده الذي اغتاله المستوطنون عام 1998، اي قبل ولادة الحفيد الذي ثأر له، ولكل شهداء فلسطين، على طريق تحرير فلسطين...
يوم 27 وقعت عملية جديدة في القدس، سقط فيها ضابط بجراح خطيرة في جيش الاحتلال، ومستوطن، شكّلت مفاجأة، واتهم فيها الفتى الجريح محمد عليوات ابن ال13عاما...
أمثال عليوات، في الانتفاضتين، كانوا، وما زالوا يرجمون جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين بالحجارة، وهم باتوا يحملون المسدسات، ويسقطون جرحى، أو شهداء، وهم يعرفون بوعي صقلته الوقائع بأن الاحتلال يحكم على كل فلسطيني بالموت ميدانيا حتى وهو يحمل حقيبته المدرسية...
إنه الجيل الرابع ينخرط في الميدان، بوعي متأجج، وبعزيمة، وبإرادة، وبذاكرة تتغذى من ذاكرة الأجيال السابقة التي رحل أكثرها، وفيها زاد معرفي تراكم بدماء ودموع أولئك الذين رحلوا وتركوا فلسطين أمانة تتوارث الأجيال العهد لها بالتحرير الكامل من نهرها لبحرها...
في قلوب الأجيال، فلسطينية وعربيّة، ستبقى فلسطين عربيّة، وسيبقى اليقين بحتمية زوال(إسرائيل) وكنسها من قلب الوطن العربي، وسيندثر المطبعون، وحكام الكيانات المستتبعة، ومن فلسطين ستشرق شمس نهضة الأمة العربية.

1