أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
ساراماغو والأمم الحقيرة...!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.01.2023

**يستطيع نتنياهو أن يصف قرار الأمم المتحدة بالبذيء والحقير وبما يشاء، ولكنه لا يغير حقيقة أن القضية الفلسطينية لن تتبخر ولن تنتهي بقرارات يتخذها الكنيست أو الحلقة الأضيق التي تسمى "الكابينيت".
وصف بيبي نتنياهو قرار الجمعية العامة في الأمم المتحدة الذي يطالب برأي في محكمة العدل الدولية يتعلق في الأراضي المحتلة عام 1967، بأنّه قرار حقير.تصريح نتنياهو يفترض أن البلاد من النهر إلى البحر هي أرض إسرائيل، وذلك بحسب العقيدة التوراتية.
بهذه المرجعية الغيبية، يُحلّل ما تمارسه إسرائيل من عنصرية واضطهاد وطرد وتهجير وتوسّع، باعتبار أن الشّعب الآخر في هذه البلاد هو شعب غاز ومحتل، وما يعتبره القانون الدولي احتلالًا تعتبره إسرائيل تحريرًا.
بالصدفة قرأتُ في هذه الأيام رواية البرتغالي جوزيه (قايين)، أنصح جِدًا بقراءتها.
كان ساراماغو قد تعرّض لتهمة اللاسامية من قبل اللوبي الصهيوني، الذي اعتبر أنّه أساء للشعب اليهودي بعمق، بسبب مواقفه السياسية المكمِّلة لأعماله الروائية الناقدة بطريقة ساخرة من القصص التوراتية، ابتداء من قصة الخلق إلى هبوط آدم وحواء إلى الأرض مطرودين من الفردوس، ثم قتل قايين لهابيل، وما يجد قايين أثناء تنقلاته في الأرض.
يكتب ساراماغو بأسلوب ساخر يذكِّر برسالة الغفران لأبي العلاء المعري وجحيم دانتي من بعدها، مع الأخذ بعين الاعتبار الحذر والتقية التي ميّزت أسلوب أبي العلاء كونه عاش في نظام خلافة إسلامي، وكان عليه أن يكون شديد الذكاء لتجنّب تهمة الزندقة وعقوبة القتل.
نجد ساراماغو أكثر وضوحًا في توجُّهه السّاخر مما جاء في التوراة، وأسباب طرد آدم من الجنة لاقترابه من شجرة المعرفة وحالة العري التي أصبحا فيها وطردهما من الفردوس إلى الأرض. وذلك بفضل مساحة حرية التعبير الأوسع في عصرنا، في بعض مناطق العالم.
يناقش ساراماغو في روايته (قايين) النّصوص التوراتية ويدحضها، ويظهر بأنها كتابة من صنع البشر وبحسب أهوائهم ورغباتهم، وليست كلام إله، كونها مليئة بالتناقضات، ثم أنّها تظهر الإله بصفات سلبية، حتى أن قايين يصرخ "أنا قتلت شقيقي فقط، بينما الإله يأمر شعبه بقتل الآلاف من الأبرياء بدون تمييز بين مقاتل وطفل، إضافة إلى سبي النساء واستباحتهن، إضافة إلى أن (أدوناي) يتفاجأ جدًا من بعض الأحداث رغم أنه كان بإمكانه منع حدوثها، مثلا لو تقبّل هدية قايين، لما جعله يشعر بالغيرة من شقيقه هابيل والتسبب بالجريمة!
ثم أنّه عند خلق آدم وحواء، كان من الطبيعي أن يكونا عاريين، لأن الخياطة والقماش لم يكونا قد اخترعا بعد، والطبيعي جدًا أن يغطّيا جسديهما بأوراق الشّجر، إذا ما كانت ضرورة إلى ذلك اتقاء من البرد مثلا، رغم أن الطقس في الفردوس يُفترض أن يكون معتدلا جدًا فلا بارد ولا حار، ولم يكن مفهوم العيب والحياء قد نشأ بعد!
ثم توجيه حواء التّهمة للحيّة التي أغوتها ومن ثم العقوبة والهبوط إلى الأرض!
لكن بعدما يهبطان، وينجبان أولادهم ويقتل قايين شقيقه يركب حمارًا يسير فيه في شتى المسالك، وفي قفزة عبر الزمن في سيناء يجد قايين قومًا صنعوا عجلاً من ذهب يقدّسونه، لكن من أين جاء القوم ما دام أن حواء وآدم وأولادهما هم أول الخلق؟
لم يسلم ساراماغو من تهمة العداء للسامية، ليس بسبب كتاباته فقط! فقد تعرض أيضا لانتقاد الكنيسة، ولكن بسبب مواقفه السياسية المناصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه.
كان ساراماغو عضوًا في محكمة برتراند راسيل حول فلسطين التي تأسست عام 2009، وهي محكمة آراء، أي قبل وفاته بعام واحد، هدفت إلى حثِّ الأمم المتحدة والمنظمات الدولية على التحرّك ضد حالة اللاعقاب التي تنعم بها إسرائيل، رغم كل ممارساتها المنافية للقوانين الدولية ضد الفلسطينيين والعرب، وكتب في أحد مقالاته "أحجار داوود ودبابات جولييت"، واستخلص أن "إسرائيل لم تتعلم دروس التاريخ".
وكان قد زار رام الله مع وفد كبير من مثقفين عالميين بينهم النيجيري سونيكا أثناء الحصار والتقى ياسر عرفات ومحمود درويش عام 2002، كذلك أدان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 وهو ما جعل اسمه في القائمة السّوداء لدى اللوبي الصهيوني.
يستطيع نتنياهو أن يصف قرار الأمم المتحدة بالبذيء والحقير وبما يشاء، ولكنه لا يغير حقيقة أن القضية الفلسطينية لن تتبخر ولن تنتهي بقرارات يتخذها الكنيست أو الحلقة الأضيق التي تسمى "الكابينيت"، وخصوصًا عندما تقودها مجموعة من المتطرّفين الذين يفصلون التاريخ والأرض والبشر بحسب معتقداتهم الغيبية.

1