أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
كرة القدم رياضة أم سياسة مفضوحة؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 03.12.2022

من بين كل الرياضات في العالم تتميز لعبة كرة القدم بأنها تحمل في حركاتها وركلاتها ومناوراتها وطقوسها وعواطفها ومشاعرها وأجوائها أكبر مخزون من المتفجرات والمكونات السياسية. المؤسسات الرياضية وعلى رأسها الفيفا تحاول جاهدة تقديم اللعبة للعالم على أنها مادة للاستمتاع والانبساط والتلاقي الإنساني، وتحاول كل ما بوسعها إبعاد السياسة والدين عن بطولات كرة القدم المحلية والإقليمية والعالمية، لكنها بالتأكيد تفشل فشلاً ذريعاً، لأن اللعبة مصممة أصلاً بشكل سياسي لا تخطئه عين، وخاصة في البطولات الإقليمية والدولية التي تتحول في الغالب إلى حروب سياسية، وتنتقل معها الصراعات والأحقاد والخلافات إلى ملاعب كرة القدم والمدرجات وجماهير المشجعين، وفي بعض الأحيان تتحول المباريات إلى ساحة وغى، ويصبح العنف المتبادل سيد الموقف، ليس فقط بسبب خسارة أو فوز هذا الفريق أو ذاك، بل تعبيراً عن مكنونات ومواقف سياسية مفضوحة. ويرى بول أوستر أن «البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها، غير أن الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيّم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة.»
حتى أعمال الشغب التي تحدث أحياناً، فهي ليست دائما نتيجة احتساء المشجعين الكثير من الكحول وفقدان عقولهم، بل تصريفاً لمشاعر سياسية. وقد شاهدنا كيف تصرفت بعض الجماهير العربية التي تساند منتخباتها الوطنية بعد فوز فريقها، شاهدنا كيف تصرفت في شوارع بعض الدول الأوروبية بطريقة عنيفة وكأنها تترجم موقفها السياسي من الفريق الخاسر والبلد الذي ينتمي إليه في الشوارع هذه المرة. وكأنها تقول: انتصرنا عليكم رياضياً وسننتصر عليكم سياسياً وثقافياً.
ولطالما انتقلت الصراعات السياسية بعد المباريات إلى صفوف المشجعين خارج الملاعب صراخاً وهجوماً وعنفاً وضرباً وتكسيراً للكؤوس والرؤوس، لأن الكرة تستفز أعمق ما في النفس البشرية من أحقاد وصراعات ومشاعر سياسية جياشة. وتمتاز كرة القدم عن غيرها بأنها تفجر تلك الأحاسيس السياسية المدفونة لدى الجميع. أوليست الهجمة الإعلامية الغربية على قطر وهي تستضيف بطولة كأس العالم موقفاً سياسياً بامتياز؟ ألم يغلف الأوروبيون مواقفهم وأحقادهم السياسية بحملات دعائية مفضوحة؟ ألم تكن محاولة بعض الفرق الأوروبية ارتداء بعض الشعارات التي تمثل بعض الجماعات تعبيراً عن موقف سياسي؟ ألم يكن ارتداء وزيرة الداخلية الألمانية أحد الشعارات على ذراعها أثناء مشاهدة مباراة بلادها مع اليابان في الدوحة موقفاً سياسياً مفضوحاً واستغلالاً وتسييساً مكشوفاً لكرة القدم؟
بالمقابل رد ناشطون وسياسيون عرب بارتداء شارات عليها رموز فلسطينية.
ولا ننسى أن الكثير من المشجعين يستغلون المناسبات الرياضية وخاصة المباريات الكبرى للتعبير عن مواقفهم السياسية، فتجد المعارضين لهذا النظام أو ذاك مثلاً يحملون شعاراتهم وأعلامهم الخاصة، لا بل إن بعضهم لا يتردد في التشويش على ترديد النشيد الوطني الذي يعتبرونه ممثلاً للنظام الذي يعارضونه، كما فعل مثلاً بعض المعارضين الإيرانيين أثناء مباراة إيران مع إنكلترا. وقد شاهدنا الضجة التي رافقت امتناع المنتخب الإيراني عن ترديد النشيد الوطني الإيراني عندما عُزف قبل المباراة، وقد اعتبره البعض موقفاً سياسياً ضد النظام الحاكم ودعماً واضحاً للانتفاضة الشعبية التي تشهدها إيران اليوم ضد حكم الملالي.
ولا شك أنكم شاهدتم ردود فعل الجماهير وحتى الإعلام والرأي العام في بلد ما عندما يفوز فريقه على بلد آخر على خلاف معه، فيتحول الفوز في أرض الملاعب إلى فوز سياسي بامتياز، ويشعر المنتصر بأنه سحق غريمه سياسياً، كما يشعر الخاسر بأن خسارته على أرض الملعب هي خسارة سياسة وطنية كبرى.
والمضحك في كرة القدم أن القائمين عليها يتناسون وهم يدعون الشعوب إلى الاستمتاع بها وإبعادها عن السياسة والصراعات، يتناسون أن اللعبة تعبير صارخ في كل مظاهرها عن الألاعيب والطقوس السياسية أصلاً، ففي المدرجات يتواجه مشجعو الفريقين وكل فريق يرتدي أزياء بلده الوطنية ويبالغ في إظهارها والتباهي بها بشكل مثير وحتى مستفز أحياناً للتأكيد على وطنيته وبالتالي تعزيز توجهاته الوطنية السياسية في مواجهة الفريق الآخر.
وشاهدنا كيف حاول بعض المشجعين الأوروبيين دخول الملعب وهم يرتدون أزياء الصليبيين في بلد مسلم. وتظهر أعلام البلدان المتبارية في المدرجات بشكل فاقع لتكريس روح الصراع والمبارزة السياسية قبل الرياضية.
ولا ننسى الهتافات الحماسية التي تشبه الهتافات والأناشيد الوطنية قبل الحروب. ولا شك أن الجماهير في المدرجات يتدفق الدم في عروقها كالبحر الهادر أثناء ترديد النشيد الوطني أو الشعارات الوطنية المحشوة بالبارود السياسي.
وحتى المشاهد أو المتابع العادي لبطولات كرة القدم وخاصة العالمية منها يشاهد المباريات عادة بموقف سياسي مسبق، فلطالما شجعنا ومازلنا نشجع المنتخبات على أساس سياسي وليس رياضيا، وهو أمر يحدث عادة في بطولة كأس العالم، فهناك الكثيرون الذين يقررون دعم هذا الفريق أو ذاك أثناء المشاهدة حسب توجهاتهم ومواقفهم السياسية المتقلبة، فلو زعلوا من سياسات بلد ما مثلاً تجدهم يشجعون أي فريق آخر يلعب ضد فريق البلد الذي يكرهونه، كما حصل بين فريقي إسبانيا وألمانيا حيث شجع معظم العرب الفريق الإسباني نكاية بالفريق الألماني الذي استفز مشاعرهم بارتداء شعارات المثلية. لكن الجمهور العربي نفسه كان من قبل قد شجع الفريق الألماني تقديراً لألمانيا على استضافة اللاجئين السوريين. وهكذا.
وغالباً ما نشجع فرقاً على أساس قومي أو ديني أو سياسي. وأحياناً نميل إلى الفريق المستضعف ضد الفرق القوية من منطلق سياسي أيضاً. وكم من المرات شجعنا هذا المنتخب أو ذاك بناء على طبيعة العلاقات السياسية بين بلدنا وبلدان الفرق الأخرى. فلو كان نظامنا على علاقات طيبة مع بلد ما ترانا بشكل أوتوماتيكي نشجع فريق ذلك البلد، لأننا مُبرمجون سياسياً. وفي أحيان كثيرة يتوقف تشجيعنا أو عدم تشجيعنا لفرق كرة القدم بناء على توجهاتنا السياسية، فالماركسي يشجع أي فريق يلعب ضد الفرق التابعة للغرب لأنه اشتراكي كاره للأنظمة الرأسمالية، وهكذا دواليك. بعبارة أخرى فإن مشاعرنا ومواقفنا الرياضية مجبولة بخلفيات سياسية.
لا شك أن هناك مشجعين رياضيين بريئين ونظيفين في العالم يشجعون المنتخبات واللاعبين بناء على مهاراتهم الكروية، لكن نسبتهم ضئيلة كنسبة المشجعين الأوروبيين الذين يدخلون المدرجات بدون زجاجة كحول.

1