أحدث الأخبار
الخميس 05 كانون أول/ديسمبر 2024
قمة المناخ والتشاؤم الحذر!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 18.11.2021

انتهى نهاية الأسبوع المنصرم، مؤتمر مكافحة الاحتباس الحراري والتغيير المناخي «كود 26» في مدينة غلاسكو الأسكتلندية، بقرارات وقّعت عليها الدول المشاركة، والتي بلغ عددها 200 دولة. وإذ تضمّن نص البيان الختامي بنودا يمكن وصفها بالإيجابية وبالاتجاه الصحيح، إلّا أن معظم المختصين وأنصار البيئة في العالم، اعتبروها غير كافية وحتى مخيّبة للآمال، وساد تعقيباتهم ما يمكن أن نسمّيه التشاؤم الحذر.
لعل الامتحان الحقيقي لمؤتمر غلاسكو ومكانته التاريخية، ليس في النص الدقيق، على أهميّته، بل أساسا في ترجمته على الأرض وفي تأثيره في الواقع الملموس حاضرا ومستقبلا. وبما أنّ وقف التدهور المناخي، لا يتعلق فقط بقرارات المجتمع الدولي، بل أكثر بالالتزامات المحدّدة وبالخطوات العملية، التي تتخذها كل دولة على حدة، فقد تقرّر منح حكومات العالم فرصة سنة كاملة لتطوير وإعادة صياغة برامجها والتزاماتها، لتقديمها في مؤتمر «كود 27»، الذي سيلتئم في منتجع شرم الشيخ المصري. لقد كانت قرارات غلاسكو مهمّة وشكّلت خطوة إلى الأمام، إلا أنها غير كافية، حتى باعتراف منظمي المؤتمر.
القرار الأول هو التأكيد على الالتزام بكبح جماح الاحتباس الحراري إلى أقل من درجة ونصف الدرجة مئوية، مقارنة بما كان عليه معدل درجات الحرارة قبل الثورة الصناعية. وبما أن الارتفاع الحاصل منذ ذلك الحين حتى أيّامنا وصل إلى 1.1 درجة مئوية، فإن الالتزام الفعلي هو بأن يكون الحد الأقصى لارتفاع معدلات الحرارة حتى نهاية القرن الحالي هو 0.4 درجة مئوية، وهذا الهدف يبدو بعيدا، حتى لو نُفّذ كل ما كان في غلاسكو من قرارات جماعية والتزامات حكومية منفردة.
في مقال مشترك نشر توّا بعد انتهاء مؤتمر غلاسكو، وصف الباحثان في علوم الكرة الأرضية والمناخ، سيمون لويس من جامعة ليدز في بريطانيا، ومارك مسلين من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، وضعية هدف عدم تجاوز 1.5 درجة مئويّة حتى نهاية القرن بأنّه الآن «في غرفة العناية المركّزة في حالة حرجة». وقدّر الاثنان، في مقالهما، أنّ المحصّلة العملية لكل قرارات والتزامات غلاسكو هي أنّ ارتفاع معدّل الحرارة سيكون 2.4 درجة مئوية حتى نهاية القرن، أقل بقليل مما كانت عليه توقعات ارتفاع 2.7 درجة مئوية، قبل مؤتمر «كود 26» الأخير. لكن هذا غير كافٍ بالمرة، فهدف عدم تجاوز درجة ونصف الدرجة، ليس اختيارا عشوائيا، بل حدّا فاصلا بين ما يمكن تحمّله، إذا جرى الالتزام به، أو تدهور نحو سلسلة متواصلة من الكوارث البيئية الفظيعة، تدفع بالبشرية وبالحياة على الأرض عموما نحو مصير بائس.
القرار الثاني، هو الالتزام الجماعي بخفض انبعاث غازات الدفيئة الكربونية بنسبة 45% على المستوى الكوني، حتى عام 2030. وقد أعلنت بعض الدول أنّها ستصل إلى نسبة صفر انبعاث حتى عام 2050. ومن الواضح أن هذا القرار وغيره من قرارات قمة غلاسكو غير كافية بالمرّة، وحتى لو جرى تنفيذها حرفيا، سيبقى خطر انفلات الارتفاع في درجات الحرارة عن المعدّل المرجو، خطرا داهما وقائما، خاصة أنها عملية لا رجعة فيها، ولها أضرار لا يمكن إصلاحها، فما ينبعث اليوم لن يصلحه وقف الانبعاث غدا. لقد فعلت شركات النفط والغاز العملاقة، وحكومات ضيقة الأفق فعلها، ومنعت قرارات أكثر حزما والتزامات أوضح ورقابة أشد، وعرقلت اتفاقا على آليات إلزام وفرض عقوبات عند الحاجة. وقد طُرحت في قمة غلاسكو مشاريع لإبقاء النفط والغاز جزءا من مصادر الطاقة، بادعاء أنه من الممكن التقليل من انبعاث الغازات السامة عبر تقنيات التقاط الغازات المنبعثة وجمع الكربون وتخزينه تحت الأرض. ويبدو أنّه جرى طرح هذه المشاريع لكسب الوقت، فهي باهظة التكاليف، وبدائل الطاقة النظيفة أرخص منها بكثير، كما لم تثبت نجاعتها سوى في أبحاث «شركات النفط».
القرار الثالث، بخصوص الفحم الحجري، حيث جرى، في اللحظة الأخيرة وبضغط من الهند، استبدال تعبير «التخلص التدريجي» من الفحم الحجري بمصطلح «الخفض التدريجي». صحيح انه ولأول مرّة يجري ذكر الوقود الأحفوري، وخفض استعماله، والاستثمار به بصريح العبارة، إلّا أن القرار جاء ضعيفا ولا يفي بالغرض المرجو.
وتتجه الأنظار نحو الصين، التي يشكّل الفحم الحجري 80% من مصادر انبعاث الغازات السامة فيها. وقد أعلنت حكومتها أنها ستقوم بخطوات دراماتيكية في تقليص استعماله مصدرا للطاقة، ما فتح بشكل تلقائي شهيّة الدول المنتجة للنفط، حيث يسود الاعتقاد بأن الصين ستقوم أولا بالتخلص من الفحم الحجري، وتستعمل النفط كمرحلة انتقالية حتى عام 2060، وهو الموعد الذي التزمت به للوصول إلى صفر انبعاث غازات الدفيئة. المنطق السياسي والاقتصادي يقود إلى أن الصين هي صاحبة المصلحة الأكبر في الطاقة النظيفة، فهي اليوم تستورد موارد طاقتها من الخارج، وهي مصادر قد تكون رافعة للضغط عليها ولمحاولة ابتزازها، في ظل احتدام الصراع والمنافسة مع الولايات المتحدة. والحق يقال إن الصين هي أكثر من ساهم في نشر الطاقة النظيفة البديلة، بعد أن قامت صناعاتها بإنتاج وتسويق ألواح إنتاج الطاقة الشمسية بأسعار رخيصة نسبيا. والتحريض الذي تتعرّض له الصين هو نصف حقيقة، فهي حقًّا أكثر الملوّثين، لكنّها في المقابل في مقدمة من له مصلحة وقدرة على وقف التلويث عندها، والمساهمة عالميا في خفض أسعار الطاقة البديلة.
القرار الرابع في قمة غلاسكو كان الالتزام بخفض انبعاث غاز الميثان الخطير بنسبة 30% خلال العقد المقبل. وتبعا لمصادر انبعاث هذا الغاز، يتطلّب تنفيذ هذا القرار تغييرات جذرية في التعامل مع النفايات، ومع الغاز الطبيعي وحتى مع الطعام من الحيوان، حيث تزداد الأصوات، التي تنادي بالتخلص التدريجي من اللحم الحيواني، والاعتماد على الطعام النباتي أو لحوم الأنسجة المصنّعة.
المشكلة هنا في التنفيذ، فالدول الغنية بالغاز لن تسارع إلى وقف الحفريات وتقليص الإنتاج، خاصة أنها ترى فرصة اقتصادية للاستفادة من تقليص استعمال الفحم الحجري، الذي «دُقّ جرس موته»، كما أعلن رئيس وزراء بريطانيا غداة انتهاء قمة غلاسكو، وكذلك فإنّ مهمّة إقناع البشر أن يستبدلوا اللحم الطبيعي باللحم الاصطناعي لن يكون مهمّة سهلة على الإطلاق.
القرار الخامس هو وقف تدمير الغابات وتخصيص التمويل له. وتنفيذه رهن بمراقبة دولية شديدة على البرازيل وإندونيسيا وروسيا، وربط واضح بين التمويل والتنفيذ، وعدم الوقوع في فخ حماية الغابات مقابل إبطاء هذه الدول مسار التخلّص من استعمال مصادر الطاقة الأحفورية.
القرار السادس هو عقد المؤتمر المقبل بعد سنة، وليس بعد خمس سنوات كما كان سابقا. والسبب هو منح فرصة للدول لتحسين وتطوير التزاماتها بشأن تقليص انبعاث غازات الدفيئة. وإذ سيعقد هذا المؤتمر في مصر، وسيليه بعد عام إضافي مؤتمر في دولة الإمارات، فإنّ الوطن العربي والشرق الأوسط سيكونان في مركز الحدث البيئي العالمي. يجب التحضير عربيا لهذا الحدث، بالتعاون مع إيران وتركيا، لطرح القضايا الحارقة وفي مقدمتها أن منطقتنا هي أكثر المتضررين من التغيير المناخي، وهي بحاجة إلى دعم دولي جدّي لمواجهة الأخطار القائمة والمقبلة. كما أنّ على دول النفط العربية أن تكون جاهزة بمشاريع للمرحلة الانتقالية، للاندماج في التحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة وعدم الوقوف الخاسر في طريقه.
كانت هناك في غلاسكو قرارات أخرى، ولكن بالمجمل كانت تلك قمّة لم ترتفع إلى مستوى التحدّي الذي تواجهه البشرية، وما يبقي على الحذر في التشاؤم هو الآمال المعقودة على مؤتمر «كود 27» في شرم الشيخ، لسد الثغرات الكثيرة في قرارات غلاسكو، ودفع دول العالم إلى التعاون الحقيقي لمنع الكارثة البيئية المحدقة. في مواجهة الكارثة المناخية، لا يصح الاكتفاء بالإجراءات التقنية، التي هي ضرورية ولا استغناء عنها بالطبع، ويجب مواجهة الأسئلة الوجودية الكبرى التي تفرضها، وفي مقدمتها علاقة الإنسان بالطبيعة، فقد قام الإنسان باستغلال جائر للموارد الطبيعة، وضخ إليها كميات هائلة من النفايات والسموم، ما أدّى إلى تغيير غير مسبوق في تركيب وحال الأتربة والهواء وأحواض المياه. إنّها حالة انفصال في المفاهيم والوعي عن الطبيعة، ملازمة للفعل التدميري فيها. والناس في نهاية المطاف، لن يقوموا بحماية الطبيعة ما لم يحسّوا بأنهم جزء منها.
وقد عبّر محمود درويش، في رائعته «أطوار أنات»، عن توقه الجامح لحالة الإنسان كجزء من الطبيعة، عبر حنين لصورة الآلهة «أنات» المنسجمة مع الطبيعة واصفا غياب هذا الانسجام بجفاف عام للطبيعة والمشاعر، وينادي «أنات» للعودة:
لا تتأخَّري في العالم السُفليِّ. عُودي من هناكَ
إلى الطبيعةِ والطبائع يا أَناتُ!
جَفَّتْ مياهُ البئر بَعْدَكِ. جَفَّتِ الأَغوارُ
والأَنهارُ جَفَّتْ بعد موتكِ. والدموع
تَبَخَّرَتْ من جَرَّة الفخّار، وانكسرَ الهواءُ
من الجفاف كَقِطْعَةِ الخشب. انكسرنا كالسياجِ
على غيابكِ. جَفَّتِ الرغباتُ فينا. والصلاةُ
تكلَّسَتْ. لا شيءَ يحيا بعد موتكِ. والحياةُ
تَموتُ كالكلمات بين مُسَافِرَيْن إلى الجحيمِ،
فيا أَناتُ
لا تمكُثي في العالم السُفليِّ أَكثَرَ! رُبَّما
هَبَطَتْ إلهاتٌ جديداتٌ علينا من غيابكِ
وامتَثلْنا للسرابِ.

1