أحدث الأخبار
الأربعاء 25 كانون أول/ديسمبر 2024
هكذا بدأ تدمير المنطقة قبل عشرين عاماً تمهيداً لصفقة القرن !!
بقلم :  د. فيصل القاسم  ... 01.02.2020

قبل أن نتحدث عن صفقة القرن يجب أن نتحدث عن توقيتها. لماذا جاءت الآن وليس من قبل، مع أنها مطبوخة منذ أكثر من عشرين سنة حسب خبر أوردته صحيفة «القدس العربي» قبل عقدين من الزمان، ففي ذلك الوقت نشرت الصحيفة ما أسمته «النص الحرفي لوثيقة بيلين- أبو مازن حول الحل النهائي». وبموجبها تكون «القدس في أبو ديس والعيزرية، والأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة الفاتيكان…المستوطنات الكبرى باقية…فترة اختبار نوايا لعشرين عاماً…والدولة المستقلة منزوعة السلاح…إلغاء الأونروا واستبدالها بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين وتوطين اللاجئين في مكان إقامتهم ودون صخب». تصوروا أن الكثير من بنود الصفقة التي أعلنها ترامب ونتنياهو موضوعة منذ أمد بعيد، وكل ما فعلته الإدارة الأمريكية الترامبية أنها اختارت الوقت المناسب للإعلان عنها. لماذا الآن إذاً؟
لا يمكن تمرير تلك الصفقات التاريخية الكبرى قبل الآن، فلا بد من توفير الظروف السياسية والتاريخية قبل تمريرها. وقبل أن نصل إلى صفقة القرن علينا أن نعود إلى الوراء عشرين عاماً كي نرى الأحداث التي مهدت للصفقة وجعلتها الآن تبدو ناضجة لتبينها والمصادقة عليها. عندما بدأ يوسي بيلين أحد كبار رجال الدولة في إسرائيل في ذلك الوقت يتفاوض مع محمود عباس مهندس اتفاقية أوسلو والشخص الثاني بعد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، كانت أمريكا قد بدأت بتنفيذ مخطط كبير في الشرق الأوسط تمهيداً للوصول إلى صفقة القرن. قبل ثلاثين عاماً تم توريط النظام العراقي بقيادة صدام حسين في غزو الكويت ثم محاصرة العراق تمهيداً لغزوه لاحقاً وتجريده من سلاحه وقوته وتفكيك جيشه وتحويله إلى مستعمرة إيرانية بضوء أخضر أمريكي. لقد غدا العراق بعد الغزو في عام 2003 بلا حول ولا قوة وصار مضرباً للمثل في الفقر والضياع والفوضى، بعد أن كان يشكل قوة لا يستهان بها في مواجهة إسرائيل. ويذكر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الذي قاد عملية غزو العراق وقتها أنه اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين آرييل شارون وقال له حرفياً»: أبشرك بأن الخطر العراقي على إسرائيل قد انتهى بعد أن دخلت القوات الأمريكية إلى منطقة الأنبار غرب العراق». قد يقول البعض إن العراق لم يكن يشكل أي خطر على إسرائيل في أي وقت. وهذا طبعاً نوع من التحليل الصبياني، فلا شك أن الجيوش العربية لم تفكر يوماً بتهديد إسرائيل في ظل قيادة صدام حسين أو حافظ الأسد أو غيرهما، لكنها كانت بكل الأحوال جيوشاً يمكن استخدامها ذات يوم لخوض المعارك، بغض النظر عن تقاعسها في تلك الفترة عن مواجهة إسرائيل. صحيح أن معظم الزعماء العرب في تلك الفترة كانوا في الجيبين الأمريكي والإسرائيلي، لكن هذا لا ينفي أنه كان هناك جيش عراقي خاض حرباً ضد إيران لثمان سنوات ولم ينهزم فيها. وهذا بحد ذاته يشكل أكبر تهديد بعيد المدى لإسرائيل، وبالتالي كان لا بد من تدميره والتخلص من خطره المستقبلي حتى لو لم يظهر خطره إلا بعد خمسين أو حتى مائة عام.
لا يمكن تمرير تلك الصفقات التاريخية الكبرى قبل الآن، فلا بد من توفير الظروف السياسية والتاريخية قبل تمريرها. وقبل أن نصل إلى صفقة القرن علينا أن نعود إلى الوراء عشرين عاماً كي نرى الأحداث التي مهدت للصفقة وجعلتها الآن تبدو ناضجة لتبينها والمصادقة عليها
راح العراق، وبعد ذلك كان لا بد من تدمير بلد عربي آخر مجاور لإسرائيل ونزع قوته وإنهاك جيشه وتدمير مقدراته وتهجير شعبه وإعادته كما العراق خمسين عاماً إلى الوراء وربما أكثر. لا نقول هنا إن الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 كانت مؤامرة على سوريا، بل كان هناك وقتها ألف سبب وسبب يدفع السوريين للثورة على النظام الفاشي الذي كان يحرم الشعب من أبسط حقوقه الإنسانية. لكن ضباع العالم أجهضوا ثورة الشعب بعد أشهر قليلة على اندلاعها وحولوها إلى أكبر عملية تدمير وتهجير في القرن الحادي والعشرين. بدل أن يدعم ضباع العالم الثورة استغلوها لتحقيق مخططاتهم القديمة، فحولوا سوريا إلى ساحة حرب للقاصي والداني، مما أدى إلى تهجير نصف الشعب السوري، وتدمير البنية التحتية لسوريا، واستنزاف الجيش السوري الذي استخدموه بطريقة خبيثة وقذرة في عملية التدمير والتهجير، فخسر معظم قوته البشرية، واستنزف ترسانته العسكرية التي ساهمت إسرائيل في تدميرها وما زالت.
لا شك أن البعض سيتساءل: ومتى كان جيش الأسد يشكل خطراً على إسرائيل؟ ألم يكن مجرد كلب حراسة للحدود الإسرائيلية منذ حرب تشرين التحريكية؟ الجواب نعم. لم يكن هذا الجيش يشكل أي خطر على إسرائيل خلال تلك الفترة، لكنه كالجيش العراقي كان جيشاً كامل الأوصاف، وكان يمكن استغلاله بشكل فعال ووطني في ظل أي نظام وطني لاحقاً، ولهذا كان لا بد من تدميره واستنزافه بأيدي النظام ذاته. وهذا ما حصل، فلم يدمر هذا الجيش سوريا ويشرد شعبها فحسب، بل عمل أيضاً على تدمير نفسه بنفسه. وهل تريد إسرائيل أكثر من ذلك حتى لو كان خطر هذا الجيش عليها مؤجلاً لمائة عام قادمة؟
أما لبنان فقد تحول إلى مستعمرة إيرانية هدفها الأساسي حماية حدود إسرائيل. وقد كانت حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله مجرد بروفة لتثبيت حزب الله حامياً للحدود الإسرائيلية. وقد انتهى الدعم اللبناني الحزب اللاتي للفصائل الفلسطينية منذ 2006. أما الشعارات الإعلامية للحزب في دعم المقاومة الفلسطينية فهي للاستهلاك اللفظي لا أكثر ولا أقل، بدليل أن حسن نصر الله قال عام 2008 بعد أن اتهموه بدعم فصائل فلسطينية قصفت الحدود الإسرائيلية بصواريخ من لبنان، قال: «هذه اتهامات شيطانية، ولا علاقة لنا بهذا الحادث لا من قريب ولا من بعيد». بعبارة أخرى تبرأ نصر الله تماماً منذ ذلك الحين من أي محاولة لتهديد الحدود الإسرائيلية.
هذا على صعيد دول الطوق المجاورة لإسرائيل. أما الدول العربية الأخرى، وخاصة دول الخليج فقد أصبحت تتوسل التطبيع مع إسرائيل، لا بل إن بعضها صار يتباهى بالتقرب من تل أبيب، بحيث أعلنت إسرائيل قبل أيام أنه صار بإمكان أي إسرائيلي أن يزور السعودية بدون أي موافقات. وفيما يخص مصر فهي خارج المواجهة أصلاً بفعل معاهدة السلام مع إسرائيل. أما الدول العربية الأخرى فقد صار لديها قضايا أكثر خطورة من القضية الفلسطينية كالقضية السورية والعراقية واللبنانية والليبية واليمنية والسودانية والحبل على الجرار. لقد باتت القضية الفلسطينية بالنسبة للقضايا الأخرى مجرد لعب عيال. فقط قارنوا بين الجحيم السوري واليمني والليبي والعراقي بالوضع الفلسطيني، وستجدون أن العرب أصبحوا يترحمون على القضية الفلسطينية مقارنة بكوارثهم الجديدة. ولا ننسى أن روسيا ترعى الآن من وراء الكواليس اتفاق سلام بين النظام السوري وإسرائيل.
هل هناك وقت أفضل من هذا الوقت للإعلان الأمريكي والإسرائيلي عن صفقة القرن؟

1