أحدث الأخبار
الأربعاء 25 كانون أول/ديسمبر 2024
هَيْدي هِيِّ الكِبِّة اللبنانية… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 24.10.2019

يعتبر اللبنانيون أنفسهم أسياد الكبّة النيئة من دون منازع، فهم يحددون بدقة موقع صناعة أوّل كبّة، ويقولون إنها انطلقت من قرية (كفرمو) من قمة جبل باريشا في شمال لبنان، ومن هناك انتقلت وانتشرت في بلاد الشام.
الكبة النيّئة أساسها لحم الغنم المهروس، الذي يبهّر جيّداً ببهار خاص، ثم يدعك ويمزج بإضافة الماء مع القمح المجروش، البرغل.
يهرس اللحم في جرن الكبة وهو من حجر الصوان، وحتى الآن لا يثق البعض بقدرة الخلاط مهما كانت نوعيته على القيام بدور جرن الكبة، ولو كانت دول عظمى من ورائه.
معظم بيوت شمال فلسطين كانت تملك جرنًا للكبة، الآن تراه في حدائق بعض البيوت للزينة والذكرى فقط، ولا يستعمل إلا نادراً في بعض الأعراس.
كانت عملية هرس الكبّة والصوت المنبعث من ضربات المطارق الخشبية طقسًا من طقوس الفرح، يتخلل عملية الهرس سحب شروش اللحم حتى تغدو اللحمة ناعمة كأنها المرهم، ثم تجبل مع البرغل، وتقدم طازجة بلا تأجيل.
عندما يدور الحديث عن الطعام، وهذا أمرٌ ليس نادرًا، يزعم البعض بأنه يغدو أطيب وأشهى كلما ذهبت شَمالا، وهناك من يزعم بأن الطعام في شمال فلسطين أشهى وأكثر تنوّعًا منه في جنوبه، وذلك لأن شمال فلسطين أقرب إلى لبنان والشام، فطبق الكبة النيئة لا غنى عنه في الشمال، أما في الجنوب فهو نادر، وهناك يعدّونها مقلية أو مشوية.
كان في كل قرية قلة من النسوة يتقن إعداد الكبّة «على أصولها»، وهن عادة نساء في أواسط العمر، لسن صبايا جديدات على المهنة ومتهوّرات، ولا مسنات فقدن القدرة الفائقة على التركيز والحساسية لإتقان العمل.
هؤلاء مسؤولات عن إعداد الكبة التي سيتناولها المئات في الأعراس، ويشترطن عدم اقتراب أي سيدة أخرى من جبلة ولجن الكبة، لأن الأمر حساس جدًا، لا مكان فيه للمغامرات والتجارب، فيها بياض أو سواد وجه، ويبقى صاحب العِرس قلقًا حتى يتناول المدعوون طعامه ويمر امتحان الكبّة بسلام، فهي الامتحان الحقيقي لطعام العرس. ولا يخلو الأمر من ملاحظات، أولًا حول نكهتها وشعطة الفلفل وليونة الكبة أو قساوتها، وطريقة تقديمها وحجم الكمية المقدمة، فالكيف لا الكم، لأن كل شيء يجب أن يكون بمعيار ومقدار دقيق، وإلا حدث خللٌ غير محمود.
هناك آراء مختلفة حول صحّة الأطعمة النيئة أو أضرارها، يقول باحثون إنها جيّدة، والدليل أن اليابانيين يتناولون السوشي الذي يحوي السمك النيئ، ويتمتعون بصحة جيدة ويعمّرون، ولكن قد يكون الأمر خطيرًا، وقد حدثت حالات تسمم نتيجة تناول الكبّة النيئة وإن كانت نادرة.
في كل مرة أتناولها ينتابني شعور بأنني مقدم على مغامرة، أعتقد أن أصحاب المعدات الحسّاسة لا يفضلون هذه الأكلة، أنصح بتجميد اللحم في الثلاجة ليومين أو ثلاثة قبل استعماله للكبة.
علاقتي باللحم متوترة، فيها شيء غامض، في أعماقي تمنيت لو كنت نباتيًا، وقد حاولت مرة لمدة أكثر من عام، وكان شعوري ممتازًا، شعرت بصفاء روحي وذهني، ولكنني شعرت بجسدي أشبه بجسد راهب.
أمارس التجربة النباتية بين فترة وأخرى لبضعة أشهر، ثم أعود لتناول اللحوم، ولكن لا يفارقني شعور بتأنيب ضمير، لا أحب رؤية اللحم معروضًا في «الفترينات»، كذلك لا أحب التعبير عن التلذذ بأكله، وخصوصاً التحدث عن أجزاء بذاتها من الحيوان كالكبد أو الخصيتين أو الدماغ واللسان، وأنفر من برامج الطهو التي يظهر فيها الطباخ وهو يقلّب قطعة اللحم بسكينه، لا أحب الحديث عن أي الأجزاء ألذ وأكثر طراوة، بمعنى آخر، أفضل تناول اللحم دون الحديث عنه، وهو يشبه القول «غُلب وسترة ولا غلب وفضيحة»، وأتوقع أن الأجيال القادمة من البشرية بعد ألوف السنين سوف تذكر بأننا كنا نقتل الحيوانات ونطبخها ونأكلها، وسيكون جرن الكبّة وطواحين اللحم إدانة لنا، تمامًا مثلما نقرأ أن الإنسان البدائي في حقبة ما كان يأكل لحم أخيه الإنسان حقًا وليس مجازًا، والعثور على قدور فيها عظام إنسان منذ مئات آلاف السنين.
رغم هذه المشاعر أتناول اللحم، وأتحايد الكبد بالذات، عندما أرى الكبد أشعر بالجريمة مكتملة، ربما لأن الكبد يُذكر في سياقات أدبية ودينية.
على الأرجح أن مصدر علاقتي المتوترة باللحم هو اللحام الذي كان في ساحة القرية قريبًا من بيتنا، ومشهد الماعز والأغنام والعجول وهم يحضرونها للذبح، ومحاولاتها اليائسة للنجاة، تضرب أظلافها بالتراب وتُحرن كأنها تشعر بما هي ذاهبة إليه، كنا نراقب السيطرة عليها وضربها ودفعها بالقوة حتى تصل الدكة التي يبطحونها ويثبّتونها فوقها، ليمرّ السيخ الضخم على حلقومها، ثم نجيع الدماء وهي تشخب إلى القناة الموحلة، ثم آخر أنفاسها، ثم العضلات التي تستمر بالارتجاف بعد تسليم الذبيحة روحها، ثم رؤية الرأس منفصلًا والعينين بلا بريق، أشعر وكأننا من القبائل المتوحشة التي يذكرونها في القصص والأفلام،
ربما يكون هذا هو أصل علاقتي المتوترة مع اللحوم.
أذكر أنني كنت في السابعة أو الثامنة عندما صرت أرفض تناول اللحوم، في يوم ما أمسكت بي والدتي وألقت بي على الأرض وثبتتني بركبتيها، وهي ترجوني أن أتذوق إصبعًا من الكباب، تحشوه في فمي فأبصقه وأتف وأصرخ رافضًا.
لا أذكر متى بالضبط عُدت لأتقبل تناول اللحوم، ثم في فترة ما صرت شرهًا في تناول الشواء، لكن كنت أشعر بأنها علاقة مؤقتة ومحرّمة سيأتي يوم وأنهيها، ما زلت أتناول اللحم بتأنيب ضمير، خصوصًا إذا كان من لحم البقر، وأقل إذا كان من لحم الدجاج، ويتلاشى هذا الشعور من تأنيب الضمير مع السمك، أما القشريات مثل القريدس والكلاماري فأتناولها بارتياح تام.
العلاقات السياسية في لبنان تشبه صناعة الكبّة، فهي تحتاج إلى توازنات دقيقة وحساسية كبيرة بين المجموعات والمذهبيات والحزبيات والخلفيات والمناطق المختلفة، تحتاج إلى إخلاص النوايا والنقاء والخبرة الغنية، وإلى حنان الأمهات في أوج عطائهن، كي تكون أكلة مقبولة على أذواق الجميع.
الثورة اللبنانية الحالية تطالب باقتلاع البلاء من أساسه وهي المحاصصات الطائفية، وبهذا تشبه مطالبة اللبنانيين بالتوقف عن أكل الكبّة، والتغلب على الولع بمذاقها الذي يعتمد بالأساس على التوازنات بين لحم نيئ وبرغل وبهارات وماء وزيت وفلفل وغيرها من المطيّبات، وأنا أراها مثل علاقتي باللحوم والكبة بالذات، تؤكل ولكن مع قليل من تأنيب الضمير، حتى يأتي يوم نتحرر فيه نهائيًا من تناول اللحوم.

1