أحدث الأخبار
الثلاثاء 24 كانون أول/ديسمبر 2024
عن فوائد الفساد والواسطات…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 01.03.2018

لا يُذكرُ الفساد والواسطات إلا بالسوء، ولكن في بعض الأحيان يكون فيها فوائد لبعض الناس.
كان بن لولو ضابط شرطة من أصل مغربي في منطقة الجليل الغربي، وكان معروفاً بقسوته، كان لسانه زفراً، فلا يتورع عن إطلاق الشتائم بالعربية الفصيحة أو المحكية المغربية، لا يفرّق بين صغير أو كبير، ولا بين مجرم وبريء،
إضافة إلى رذالته مع المعتقلين لأسباب تافهة، فقد آمن بالعنف طريقاً لفرض هيبته.
كان يقيم في بيت من البيوت الجاهزة في مستوطنة حديثة أقيمت في السبعينيات من القرن الماضي على أراضي قرى منطقة سهل البطوف.
بن لولو وبعد أن أصبح ضابطاً كبيراً مهيمناً بلا منازع، اقتنى قسيمة بناء ليبني فيها فيللا يستمتع ويتباهى بها . وكان لا بد له من أصحاب المهن ، وفي هذه الحالة، فإنهم من عمال ومقاولي المنطقة من العرب.
قرر فهد مقاول البناء مراعاة بن لولو لغاية في نفسه، فوفّر عليه مبلغاً كبيراً من المال، كانت التجربة الأولى عندما سُجِّلت ضد المقاول مخالفة سير باهظة أحضرها لبن لولو وسأله ما العمل في هذا؟ أخذ بن لولو المخالفة، وبطريقته ألغاها على الفور. صار فهد مقاول البناء عنواناً لأبناء عائلته وأصدقائه وأصدقاء أصدقائه في قضايا مخالفات السير، ثم صار واسطة لتحرير معتقلين لأسباب جنائية، أو لمنع اعتقال مخالفين، فما أن تقع المشكلة حتى ينصحوك بالذهاب إلى فهد المقاول قبل المحامي.
بعد البنّاء جاء القصّار الذي تعلم الدرس وطبقه بنجاح ثم جاء الكهربائي والبلاط والنجار ومقاول أعمال الألومينوم والسّباك والزجّاج والدهان وملمّع البلاط وحتى الجنائني، وما أن جهزت فيللا بن لولو ودخل ليسكنها حتى كان جميع المهنيين الذين عملوا فيها أصحاب واسطة قوية وحظوة لديه.
بن لولو تحول إلى إنسان رائع بالفعل، ولم يعد الرجل المخيف، وعُرف أن اسمه بنيامين، وصرت تسمع من يناديه عند مروره في القرية بلا تكلّف..بيني بيني، ما الذي تفعله هنا، تعال اشرب قهوة.
في المقابل رد بن لولو الجميل (وليس الرشوة)، فهو يعطي أرقام هواتف المهنيين الذين عملوا في بيته لزملائه في جهاز الشرطة ومعارفه من شركة الهاتف والكهرباء ومصلحة التأمين الوطني وضريبة الدخل والإطفائية ومسؤول هنا وموظف هناك، وواحد ينقل إلى الآخر.
وهكذا فمشاكل الهاتف يحلها أو يحاول حلها البلاط مصطفى، والمشكلة مع شركة الكهرباء يحاول حلها الجنائني سعيد، وإذا تورطت مع ضريبة الدخل فليس لك إلا توفيق مجلس السيارات فقد يحلها، وإذا لاحقك التأمين الوطني فربما ساعدك عبدو الطبّاخ، وكل هذا بالعقل وبدون ضجة. إلى جانب هذا نشأ أدعياء، وأكثر من واحد ادعى قدرته على حل مشاكل توصيلات الكهرباء أو الهاتف مقابل دفعة على الحساب، ثم يتلاشى.
تعلمت قيادة السيارة في نتانيا، أخبرني كثيرون في ذلك الزمان أن لكل معلم قيادة علاقة مع المُمتحِنين، هناك اتفاق فيما بينهم، من يقدّم زجاجة مشروب كحولي ينجح، ويفضل أن تكون من صنف كونياك نابليون، وبدونها قد تعمل عشرة امتحانات وأكثر. رفضت الفكرة، وقررت أن أنجح بجدارة، وبدون تقديم الرشوة رغم تفاهتها.
فشلت في الامتحان الأول وهذا ربما كان مبرّرا، في الامتحان الثاني سمعتهما يتحدثان بالييدش، وهي خليط من العبرية والألمانية مع تشويه للكلمات بإضافة حرف للكلمة خصوصاً حرف العين، وبما أنني أعرف العبرية وبعض الألمانية فأفهم بعض الكلام بالييدش، سأله الممتحن! هل توجد قنينة(إيز عِس آ فلايش)…فرد عليه.(ناين) لا.وفهمت أنني فشلت رغم أنني لم أخطئ . في الامتحان الثالث أصررت على النجاح بدون مساعدة نابليون وهُزمت مرة أخرى، وقررت أن لا أنتظر للامتحان العاشر، في الرابع أحضرتها، نابليونية لا تنزل الأحزان ساحتها، لو مسّها حجرٌ مسّته سراء.
دسستها تحت مقعد الأستاذ وقلت»هذه للتفاؤل فقط».
انطلقنا وسأله السؤال التقليدي بالييدش:وكان رده «عِس» بلا. أنت سائق ماهر مبروكة الرخصة. صحيح أن نابليون هُزم في عكا ولكن له هيبته في نتانيا. وقد عرفت هذه الظاهرة في حينه برخص نتانيا، حيث كانت نسبة المتورطين منهم في الحوادث مرتفعة.
بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن أجرت إحدى القنوات تحقيقاً صحافياً وكشفت الغطاء، وتبين أن موتسارت وشتراوس وجورج واشنطون وكثيرين غيرهم من المشاهير متورطون إلى جانب نابليون.
من قصص الواسطة الغريبة التي صادفتها كانت في تجمع سكني عربي غير معترف به، وهو عبارة عن بيوت من التنك والجبص، محرومة من الخدمات.
في يوم ما، ذهبت إلى هذا التجمع لإعداد تقرير صحافي، وفوجئت بوجود وصلة كهرباء عادية في أحد البيوت وسط الحي ومباشرة من شركة الكهرباء دون البيوت كلها، وهذا أمر شبه مستحيل في تلك المنطقة، سألت الرجل كيف حصلت على وصلة الكهرباء؟ فقال: أنا أشتغل منذ سنوات في مصنع للكرتون، وتشتغل معي سيدة روسية، نشأت بيننا علاقة مودّة، انتُخب ليبرمان وصار وزيراً للبنى التحتية عام 2001، ابنة زميلتي في العمل ناشطة مع حزب ليبرمان وتوظفت في مكتبه، حكيت لزميلتي الروسية عن معاناتي، فطلبت من ابنتها مساعدتي، وهذه طلبت التفاصيل مني فأرسلتها لها، بعد شهرين وصلتني رسالة موافقة على وصلة كهرباء. دفعت ثمن الوصلة وجاء فنيو شركة الكهرباء وأوصلوا بيتي بالتيار.
ـ ليبرمان! تساءلت متعجِّبا..
ـ نعم ليبرمان ما غيره..
طبعا لا أقصد هنا تبرير الفساد والواسطات فأضرارها الكبيرة لا تقاس بفوائدها الهامشية، خصوصاً عندما تتعلق الأمور بقضايا جدّية، فقد يعفى بعض المجرمين من عقابهم الذي يستحقون، ويخفف عنهم، وخصوصاً أن السلطة نفسها معنية بفوضى في ما تسميه الوسط العربي، فهي تغض الطرف مثلا عن السلاح غير المرخص، طالما أنه يستخدم لتخريب السلم الاجتماعي في مجتمعنا، حتى تحوّل إطلاق النار الليلي في معظم قرانا إلى ظاهرة رعادية، في زمن ما كانت رصاصة واحدة تدخلك السجن، صار بعضهم يطلق الرصاص من أسلحة غير مرخصة بشكل شبه علني وبلا رادع، وهذه ليست قضية فساد، بل هو إفساد وتخريب رسمي موجّه وعنصري.

1