لم أعتد الخروج في ليلة رأس السنة الميلادية إلى أي مكان، سوى مرة واحدة كنت فيها خارج البلاد.
قبل بضع سنوات وقد اقتربت الساعة من التاسعة مساء قررت أن أغير التقليد ودعوت زوجتي لنعيش اللحظات الأخيرة من العام لنستقبل العام الجديد في مطعم.
تجهزنا وتوكلنا وخرجنا من البيت.
ــ شو رأيك نذهب للساحل أم الجبل؟
ـ اذهب أينما تحب أنت؟
ـ أنا لا فرق عندي..
ـ هل في بالك مكان معين…
ـ لا…
ـ فلنذهب إلى الساحل..
توجهنا إلى الساحل وقبيل مدخل عكا سألتها:
ـ شو بتحبّي عكا ولا حيفا؟
ـ انت كيف بدك..
عكا هي عشقي. بدأنا البحث عن مطعم لنحتفل بتلك اللحظات التي يظهر فيها عقرب الثواني وهو يلتهم الدقيقة الأخيرة من العام، لم أجد موقفا للسيارة، وبرغم ذلك توقفت أمام أكثر من مطعم، وهرولت لأفحص هنا وهناك ولكن كلها مختنقة بالناس.
دخلت البلدة القديمة، كان واضحا أنها أكثر ازدحاما ولا مكان فيها لقطّة، إذا فلنسرع إلى حيفا، شعرت أنني في سباق مع عقرب الثواني، قطعت المسافة في رقم قياسي.
ـ شو رأيك نذهب إلى البلد أم الهدار؟
ـ مش مهم…
توجهت إلى الهدار ثم هبطت إلى وادي النسناس، المحال القليلة فيه ممتلئة، انتقلت إلى حي الألمانية المكتظ بالمطاعم والأضواء، وطبيعي أن تكون ممتلئة، تجاوزت الحادية عشرة، صعدت إلى الكرمل مرورا بحي عباس ثم ستيلا مارس ـ الخضر،لا مكان.
الساعة تجاوزت الحادية عشرة والربع، تحول الأمر إلى توتر وصمت مريب، عقرب الثواني بدا مستشرسا في التهام الخمس والأربعين دقيقة المتبقية من العام.
هبطت من الجهة الأخرى الغربية الجنوبية للكرمل، أتوقف عند إشارة ضوئية، أتعثر بسائق يسير على مهله، أخيرا اقتربت من منطقة المراكز التجارية في محيط طيرة حيفا، بحثت عن موقف ولم أعثر، أخيرا أوقفت السيارة في مكان ممنوع الوقوف فيه، قد يكلفني غرامة مالية، لا بأس، المهم أن لا أضيّع اللحظة التي سيظهر فيها عقرب الثواني وهو يلتهم الستين ثانية الأخيرة من العام.
انتقلت بسرعة من مكان إلى آخر وأنا أسأل ولم يبق سوى سبع دقائق، هي عبارة عن أربعمئة وعشرين ثانية، يلتهم العقرب منها بلا توقف، شعرت أنه صار مجتهدا جدا في التهام الدقائق الأخيرة، وقفت في باب أحدها يائسا، فأطل رجل خمسيني نحيل شعره رمادي يرتدي سروالا أسود وقميصا أبيض ليقول في غاية التهذيب ـ أهلا وسهلا،كم واحد أنتم!
ـ اثنان فقط؟
ـ أهلا وسهلا تفضلا..
تنفست الصعداء، أخيرا عثرنا على مكان نرى فيه عقرب الثواني وهو يلتهم الدقيقة الأخيرة من العام..
قال الرجل: عفوا الحساب مقدما…
ـ كم؟
ـ خمسمئة شيقل فقط للزوج يشمل العشاء ومشروبا خفيفا.
أعرف أن أفخر عشاء لا يصل ثمنه إلى مئتي شيقل للزوج، ولكنها الليلة التي سأرى فيها عقرب الثواني وهو يلتهم الدقيقة الأخيرة، إن مشهده وهو يزدرد الثواني الستين الأخيرة من العام فيه نشوة خاصة ينتظرها مليارات الناس، فلندفع والمهم أن نكون خطوة أو اثنتين داخل المطعم وليس خارجه، يعني لو دخلنا المطعم في الساعة الثانية عشرة ودقيقتين فكأننا لم نفعل شيئا.
لم يبق سوى أربع دقائق كي يظهر العقرب على الشاشة وسنرى كيف سيفترس الدقيقة الأخيرة من العام ثانية بعد ثانية.
حُشرنا إلى جانب أزواج آخرين، المكان ضيّق لدرجة أنك لا تستطيع الالتفات يمنة أو يسرة إلا بعينيك، ولكن المهم أن الجميع سعداء لأنهم سيعيشون مشهد عقرب الثواني وهو يفصفص آخر دقيقة من العام. لقد شاهد مليارات الناس في دول الشرق الأقصى هذا العقرب نفسه، لم يبق سوى مئة وعشرين ثانية.
وضع النادل أمامنا طبقا صغيرا من ملفوف أحمر بالمايونيز، ثم انحنى باحترام وسأل: دجاج أم سمك؟
ـ سمك..
ـ آه فليكن سمكا…
الأعناق كلها اشرأبت والأعين صُوّبت إلى شاشة التلفزة الكبيرة المعلقة على الجدار في مكان مرتفع، ظهر البطل، ظهر عقرب الثواني، ظهر مثل عدّاءٍ يقترب من الخطوات الأخيرة للفوز.
عشرات وربما مئات الملايين ينظرون إليه، لقد قطع خمس عشرة ثانية وها هو يتقدم ويقترب من الثلاثين ثانية الأخيرة من العام، لم يبق سوى عشرين ثانية ويغمض العام عينيه إلى الأبد، إنه يندفع بقوة إلى العشر ثوان الأخيرة، سبع ست خمس أربع ثلاث اثنتان، أطفأ أحدهم النور، تفرقعت الأضواء على الشاشة، وتبادل بعض من حولنا القبلات ورفعوا الأنخاب وقلت لزوجتي: كل عام وأنت بخير.
ـ وأنت بخير..
الحمد لله أننا كنا داخل المطعم في هذه اللحظات ولسنا خارجه. وصل العشاء.
أشهرتُ السكين والشوكة فوق الطبق، حاولت أن أعثر على شيء من اللحم، ولكن كانت هناك عظمة محترقة إنها عظمة بالفعل وليس مجازا، نظرت إلى طبق زوجتي فرأيتها تبحث مثلي.
قالت مستغربة ـ أظن أن هذه عظمة، حتى قطة لن تجد عليها شيئا يؤكل.
نظرت حولي مستكشفا، فانتبهت لمن ينظر إلينا ويبتسم، ويشير إلى عظمة مثلها في طبقه، بينما أشار جاره إلى عظام دجاج، وهمس لي جاري الذي لم أر وجهه جيدا برغم أن كتفي ملتصقة إلى كتفه بسبب ضيق المكان: مليح اللي ما جاب لك ملقط غسيل بدل الطعام..
دنا النادل من طاولتنا وانحنى باحترام: هل كل شيء على ما يرام…
قلت وقد بت على يقين بأن هذه الوجبة كانت بمخالب وأنياب قِط قبلي، وأنها مرت في عملية تدوير وقليت من جديد أكثر من مرة وبزيت محترق، بل ربما بزيت سيارات ـ شكرا على العظمة..مياو مياو…
فرد مبتسما وقد فهم ما دار في خلدي ـ مياو مياو.
يوجد في اليوم الواحد 86400 ثانية، فإذا ضربناها في عدد أيام السنة عرفنا عدد الثواني في العام، فإذا ضربناها بعدد سنوات معدل عمر الإنسان المتوقعة لعرفنا عدد ثواني عمرنا التي لا يتوقف عقرب الثواني عن التهامها بالسرعة نفسها التي يلتهم فيها الدقائق الأخيرة من عام منصرم، ولكننا لا ننتبه إلى وحشية هذا العقرب إلا في اللحظات الأخيرة.
في الربيع كنا نراقب الملايين من دعاميص الضفادع في مستنقعات سهل القرية، تبدأ المياه بالانحسار عنها فتنحشر كلها في بقع الماء الموحلة المتبقية في محاولات يائسة لضمان مكان لها كي لا تختنق، ولكن الماء ينحسر بلا توقف، تتخبط الدعاميص وتصارع بعضها في الأوحال لتكسب أكثر ما يمكنها من ثوان من الحياة حتى تلقى حتفها…
دعاميص المستنقعات…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 04.01.2018