أحدث الأخبار
الاثنين 23 كانون أول/ديسمبر 2024
أريدُ موقفا لا زهورا…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 23.11.2017

لبّيت دعوة صديقة للاحتفال بتوقيع مجموعتها الشعرية، كان هذا لأجل كسر الملل والروتين، لا من أجل الشعر فقط، فقد باتت لديّ حساسية مما يسمّى شعرا، خصوصا الوطني منه، قلت مرة لشاعر كبير: إن أحد أسباب هزيمة الشعب الفلسطيني بالذات هو الشعر، وفي المرحلة التي نتوقف فيها عن شاعريتنا ونعيش الحقيقة سنقفز قفزة هائلة، لقد استعضنا عن النضال الحقيقي بالنضال الشعري سياسيا واجتماعيا،أغضبه رأيي فقال: ليس لدينا أصلا سوى الشعر.
التقيت في قاعة المسرح كثيرين أعرفهم، صفع الزمن بعضهم بقسوة، ولاطف ودلّل بعضهم إلى حين. وقفت لحظات مع الشاعرة المحتفى بها وصديق آخر نتبادل بعض الكلمات، كانت سعيدة جدا بالحضور الكثيرين نسبيا، وأضفت إلى سعادتها بهجة أن قلت: تبدين أصغر من سنك بعشر سنوات». لا أفهم كيف تصدّق امرأة كذبة بهذا الحجم، لأنها في الأصل حذفت من سنها عقدا وهذا يعني أنها الآن في سن ابنتها في الثانوية.
في تلك الأثناء رأيت صديقة ممثلة قديمة تخطت عقدها الخامس مقبلة علينا بخطى ثابتة بشعرها الأسود الطويل المنسدل على كتفيها، تدلت من عن كتفها حقيبة نسائية سوداء، ترتدي فستانا طويلا وكنزة صوف غامقة، نال الزمن منها برغم مقاومتها العنيدة، رحّبتُ بها متحمسا: أهلا وسهلا بفنانتنا الكبيرة…
كان لا بد أن تمر من بيننا لأننا وقفنا على مسافة قريبة جدا من أحد مدخليّ القاعة، صافَحَتْ المحتفى بها مبتسمة ومهنئة ثم حيّت الرجل الثاني، وتجاوزتني من دون أن تتوقف أو تردّ على ترحيبي بها، مضت مسرعة بنصف استدارة كأنما تقول لي…لا أريد أن أراك، وهذا جعل ثلاثتنا نتساءل..ولو..شو السيرة!. خصوصا أنني رحّبت بها، قلت لهما:هذه يسمّونها فَنْسة، فنستني فنانتنا الكبيرة.
والفَنَس في لسان العرب هو الفقر المدقع.
جلستُ في أحد الصفوف الخلفية، إنها أمامي بخمسة أو ستة صفوف، هكذا لن تراني، بينما أرى من مسافة أمتار شعرها الكثيف الذي صبغته بالأسود الفاحم.
أحب الصفوف الخلفية لسببين، أولا لأنها تمنحني مجالا للمغادرة من دون إحراج إذا ما فاق الملل حدود توقعاتي، وثانيا لن أضطر للوقوف احتراما أو لإخلاء مكاني لواحد من شخصيات يحجزون لهم الصف الأول والثاني عادة لا علاقة لهم لا بشعر ولا بنثر ولا بفن، وقد يكون بعضهم زعرانا وصلوا مراكزهم بالنصب والاحتيال والعربدة.
حاولت العثور على سبب لتصرف فنانتنا الكبيرة، لا توجد بيننا علاقة مباشرة في السنوات الأخيرة، اختلفنا في الساحة الفيسبوكية على الموقف من سورية مثل كثيرين، بعد نقاش أكثر من مرة صرت أتجاهل منشوراتها وتتجاهل منشوراتي.
قبل أيام قلائل كتبتُ أنّ من يتباكى في ذكرى رحيل ياسر عرفات ويتضامن مع بشار الأسد، فهو ينافق إما لجماعة عرفات أو لجماعة الأسد، أو لمن بيده الحل والربط، فهل اعتبرت فنانتنا الكبيرة نفسها من هؤلاء الذين قصدتهم فزعلت!
كانت الشاعرة المحتفى بها ترد عن أسئلة المُحاورِ الصحافي باقتضاب أنضَب مخزونه من الأسئلة بسرعة.
دخل المسرح فنان عزف على الكمان بحساسية بالغة مقطع «وصفوا لي الصبر» من ودارت الأيام لأم كلثوم. الحضور مُعجب ويكاد أن يصفق للعزف الرائع، ولكن الجميع كأنهم مقيدون، يحتاج الجمهور إلى واحد ليصفق فيتبعه الآخرون ويتحررون من لجام الصمت، بقي العزف الرائع من دون ردة فعل، كأنه يعزف في غابة غمرتها الثلوج، شعرت بتضايقه وتضايقت لأجله، هممت أن أصفق وتراجعت، فقد حدثت معي فنسة كهذه، صفّقت مرة متحمسا ولم يتبعني أحد، بل ضحك بعضهم من مبادرتي،
وهذا سبب لي عقدة التصفيق، فلا أصفق حتى أسمع وأرى كل من حولي يصفقون. عندما أنهى المقطوعة سُمع تصفيق حاول بعضهم أن يجعله حارا، لكن من دون جدوى، فقد كبّل الصقيع كل شيء. تجمع كثيرون حول المحتفى بها ليقولوا لها.. انظري ها قد أتينا، الشاعرة توقّع النُسخ بتؤدة ونشوة.
مضيت خارجا من المبنى بسرعة، لم أحبذ أن ألتقي فنانتنا الكبيرة مرة أخرى وجها لوجه، أشعر بخجل في مثل هذه المواقف.
وصلت البيت، وبعد دقائق اندسست في فراشي على السرير، قرأت بضع صفحات أخرى من رواية البيت الصامت لأورهان باموق، أتفق مع رأي الروائي السوداني أمير تاج السر بما جاء في مقالة له قبل أسبوعين، بأن الرواية التركية كثيرة التفاصيل حد الملل أحيانا.
استيقظت قبيل الفجر وقد سقط الكتاب السميك من يدي على الأرض إلى جانب محفظة النظارة وريموت التلفزيون، الذي ضاعت إحدى بطاريتيه تحت السرير، وتذكرت أنني رأيت في المنام شابا أعرفه، كان جالسا على منصة قاض ويبتُّ في قضية أنا طرف فيها، عادة ما أجد تفسيرا لمناماتي، خصوصا تلك التي تزورني قبيل الفجر، حتى بت أخاف أو أتفاءل منها، احترت بالفعل، لم أر ولم أسمع منه شيئا منذ سنوات فما الذي أتى به!.
تنقلت بين نشرات الأخبار الصباحية منتظرا أن تصحو زوجتي إلى عملها فتعد القهوة لي ولها (أعرف أن هذا تمييز ضد المرأة)، تناولت هاتفي ودخلت إلى الفيس بوك، فوجئت بشارات إعجاب سجلتها فنانتنا الكبيرة قبل دقائق على صوري ومنشوراتي، في المساء خيّبتني والآن تصطبحني بأكثر من إعجاب، أثناء دهشتي هذه وصلتني إشارة لرسالة منها ففتحتها:
عزيزي…أود أن أعتذر لك إذ مررت بالأمس إلى جانبك ولم أتوقف عندك، يبدو أن وجهك قد تغيّر، وابيض شعرك وتساقط، فلم أعرفك للوهلة الأولى، فقط بعدما جلست في مقعدي تأكدت أن هذا هو أنت، وقررت أن أراك بعد انتهاء البرنامج مباشرة، بحثت عنك ولكن يبدو أنك خرجت أرجو أن لا تؤاخذني…
- صحيح خرجت فورا لأنه كان عندي عمل ضروي في البيت، ولكن كلماتك تدل على سمو روحك، سأخبرك بأمر يبدو غريبا، رأيت رجلا في المنام قبيل فجر اليوم لم أره منذ سنوات كأنه قاض على منصة وأنا واقف أمامه وحضرته يتحدث بأمر ما غير واضح، الآن فطنت أنه شقيقك فؤاد.
- إنه يريدك أن تنصفني وأن تحكم بالعدل..
هل أصدّق أنها لم تعرفني، أم أنها شعرت بتسرع وخطأ في تصرفها وندمت!
- ولكنني رحّبت بك…
- سمعي أيضا ضعُف..
- بصراحة ظننت أن جفاءك هذا بسبب الموقف مما يجري في سورية، لا أفهم مثقفين يكتبون شعرا حماسيا في الحرية والمقاومة ويقدمون مسرحيات تغوص في أعماق النفس الإنسانية، كيف يصطفون إلى جانب دكتاتور دمّر شعبه وبلاده لأجل استمرار حكمه، أنا لا أؤمن بفن أو أدب لا يمثل صاحبه…
صمتت لحظات وانتظرتُ ردّها، بدا من عندي أنها تكتب، ثم تتوقف،مضت دقيقتان وأنا أنتظر، وحينئذ أرسلت لي أضمومة من الزهور..
- الزهور جميلة جدا، ولكن أريد موقفا لا زهورا يا فنانتنا الكبيرة…

1