أحدث الأخبار
الاثنين 23 كانون أول/ديسمبر 2024
تقسيم الدولة السورية : الإستراتيجية الروسية والسياسة الأمريكية !!
بقلم :  د. لبيب قمحاوي* ... 27.10.2015

هَلـﱠلَ العديد من العرب للتدخل العسكري الروسي في سوريا بإعتباره هزيمة لأمريكا ونصراً لروسيا بالرغم أن أحداً لا يعلم حقيقة ذلك النصر وطبيعته أو تلك الهزيمة ومداها .
من السذاجة المفرطة الحديث في هذا السياق عن هزيمة أمريكا وإنتصار روسيا أو العكس . فعندما نتحدث عن الدول الكبرى ، لا يوجد هزيمة مطلقة أو إنتصار مطلق بل مصالح تتوازن مع تطور الأحداث . وإلى حين توازن الأحداث يتم إستعمال دول أخرى أو منظمات شبه عسكرية أو مارقة لتساعد على إحداث ذلك التوازن .
إن محاولة تحميل الدور الروسي في سوريا أكثر مما يحتمل وإعطاءه تفسيرات عقائدية أو رومانسية أو بطولية هو نهج خاطئ سوف يؤدي إلى نتائج مغلوطة ، وفي أحسن الأحوال إلى أمنيات وتوقعات غير واقعية .
الـدور الروسي يستند في أصوله إلى مصالح دولة الإتحاد الروسي ، وأي تفسيرات أخرى هي من باب الجهل السياسي أو الأماني والتمنيات . وإنطلاقاً من ذلك ، فإن أي حل للأزمة السورية يجب أن يتقاطع بطريقة أو أخرى مع المصالح الروسية . ونفس الحديث ينطبق على الأطراف الرئيسية الأخرى ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران . وإذا كان هنالك مِنْ تعاطف سوري وجماهيري عربي مع الدور الروسي فإن ذلك يأتي نكاية بالدور الأمريكي المؤيد لإسرائيل دائماً والمشكوك في نواياه ونوايا حلفاءه تجاه سوريا والعرب . ولكن هذا يجب أن لا يـُنسينا عمق العلاقات بين إسرائيل وروسيا والدور الذي لعبته روسيا في تصدير أكثر من مليون مهاجر إلى إسرائيل .
أهمية الدور الروسي تكمن في أنه كسر الإحتكار الأمريكي لقضايا المنطقة . والمهم هنا أن يمتلك السوريون والعرب القدرة على الدخول على خط التوازنات الدولية ومن ثم المفاوضات بين روسيا وأمريكا وباقي القوى الإقليمية بحيث لا يتم الإتفاق على تسوية ما في تجاهل كامل لمصالح سوريا والعرب . فالعلاقة غير المتكافئة نسبياً والمبنية على الحاجة لن تكون بنفس أهمية العلاقة المبنية على قوة الطرفين والمصالح المتبادلة . ومع الإقرار بأن عصر العنتريات الوطنية قد إنتهى وأن العصر الحالي هو عصر الإنجاز الهادئ ، إلا أن هذا لا يعني الإستسلام لإرادة الغير تحت شعار الواقعية والإستمرارية . وإذا كنا نعيش في حقبة تتميز بالحكام الأقزام مقابل العمالقة اللذين سبقوا ، فإن هذا يجب أن لا يشكل مبرراً للقبول بسياسات لا يمكن بل لا يجوز القبول بها .
يشكل التدخل العسكري الروسي في سوريا ، وبغض النظر عن مسبباته وأهدافه ، مخرجاً هاماً من إنحصار موازين الصراع في سوريا بيد أمريكا وحلفائها وهو أمر دفع الكثيرين إلى تأييد نظام الأسد لأن أي عملية تأييد ، أو حتى قبول ، بالدور الأمريكي والسعودي ، يعتبر إنتحاراً سياسياً في المنظور الشعبي العربي . وهكذا ، وبغض النظر عن حسنات أو سيئات التدخل الروسي في سوريا ، فإنه نجح في فرض حالة من التوازن على مقدرات سوريا وما يجري وسيجري فيها ولها ، وإنقاذاً لها من إحتكار أمريكا وحلفائها لمسار الأمور .
سوريا بكل ما تمثله من دولة وطنية وشعب وتاريخ وثقل إقليمي أصبحت الآن في واقعها دولة محتلة . وإحتلال سوريا جاء نتيجة سياسات أمريكية وسعودية ساهمت في خلخلة الدولة وإنهاكها تمهيداً لإسقاط النظام . ولكن الذي حدث هو سقوط الدولة وبقاء النظام الذي إستمر في مقاومة جهود إسقاطه إلى الحد الذي دفعه للإستعانة بقوى من خارج سوريا ومنها إيران ممثلة بحزب الله وبعض قوات الحرس القومي ، ومن ثم روسيا التي أحجمت عن تلبية الطلب السوري إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لها وقامت بما قامت به لتكريس وجودها العسكري ونفوذها المؤثر على مستقبل سوريا وبما لا يقبل شـَكاً أو تأويلاً ، وبشكل يـُجبر العالم الخارجي ، بما في ذلك أمريكا ، على الإعتراف بـِدَوْر لروسيا في كيفية وطبيعة الحل النهائي للحرب الدائرة في سوريا .
الروس وجدوا فسحة مناسبة لتدخل سريع طال أمد إنتظاره من قبل النظام السوري الذي كان يسعى لإنقاذ نفسه وليس وطنه . وأمريكا ، على ما يبدو قد شعرت أن إتمام عملية إنهيار الدولة السورية لا تحتاج إلى جهودها المباشرة أو تواجدها العسكري كونها تتم بجهود ذاتية سورية وعربية وإسلامية . وفي حين يعتبر البعض أن نجاح التدخل الروسي قد جاء على حساب كل من أمريكا وتركيا وإيران ، فإن الإشارة إلى أن التدخل العسكري الروسي بهذه السهولة لم يكن ممكنا ً لولا تراجع الأهتمام الأمريكي الذي تمت ترجمته مؤخراً بإلغاء ميزانية الخمسمائة مليون دولار لتدريب المعارضة السورية "المعتدله" . والحديث يستمر في سذاجته لمن يعتبر أن التدخل الروسي هو انتصار لبشار الأسد ، إذ هو في الواقع تتويج لهزيمته الداخلية التي تطلبت التدخل الروسي لبقائه في الحكم ، وإعطائه حقنه الحياة .
واقع الحال في سوريا يشير إلى أنها قد أصبحت مكتظة بقوى عسكرية وشبه عسكرية وإرهابية من مختلف أرجاء العالم . فمنذ الحرب العالمية الثانية لم يتواجد هذا العدد من القوى الأجنبية المقاتلة على أراضي دولة ما كما هو عليه الحال الآن على الأراضي السورية . فهنالك تواجد عسكري مباشر وغير مباشر للقوى الدولية الأهم وهي روسيا وأمريكا ، وكذلك القوى الأقليمية الرئيسية وهي إيران وتركيا والسعودية بالإضافة إلى قوى أخرى شبه عسكرية أو إرهابية تعمل على الساحة السورية مثل حزب الله وداعش والنصره والجيش السوري الحر وقوى المعارضة السورية الأخرى بكل انتماآتها وما تمثله وتسعى إليه .
هنالك من يعتقد بأن الدور الإيراني في سوريا أقوى من الدور الروسي وذلك من خلال التأثير الميداني والعسكري في سوريا لقوات الحرس الثوري الإيراني ولحزب الله التابع لإيران ، إلا أن الحقيقة تبقى أن الدور الإيراني مرتبط بالدور الروسي طردياً ، فكـلما إزداد الـدور الروسي في أهميته إزداد الدور الإيراني والعكـس صحيح إلا إذا وقع خلاف إستراتيجي بينهما إما على مصير الأسد أو على حجم الدور الإقليمي الإيراني من خلال الربط بين العراق وسوريا بمعزل عن روسيا .
أما تركيا ، فقد فقدت فرصتها وضعف دورها نتيجة ضعف أداء حزب اردغان في الإنتخابات الأخيرة ، وقد تكتفي في النهاية بالفتات الذي يتركه لها الآخرون نظراً لغياب استراتيجية تركية واضحة ومتـكاملة تجاه سوريا ، وتذبذب الموقف التركي المستند إلى وضع داخلي مهتز للحزب الحاكم ، ولإنحسار التأييد والقبول لفكرة تقسيم المنطقة على أسس مذهبية تقـود تركيا بموجبها المعسكر السُنـّي وهو في غالبيته المطلقة عربي لا يـُبْدي حماسة لقيادة تركيا له.
إن واقع الأمور يؤكد أن الروس يخوضون حربهم الخاصة في سوريا . واذا كان هنالك من فوائد للنظام السوري فهي تأتي في سياق الأمور ولا شئ غير ذلك . فالعلاقة بين بشار الأسد و روسيا تكتيكية وقد تنتهي إلى استبداله ، في حين أن العلاقة مع نظام الأسد قد تكون في المدى المنظور استراتيجية . ودعم روسيا لبقاء الأسد يتوقف على مدى تأثير وجوده أو غيابه على المصالح الروسية في سوريا .
تشير الأمور إلى إقتراب الأزمة السورية من مفترق طرق جميعها ستؤدي إلى تقـسيم سوريا . ولكن الإحتمال الأقوى هو تقسيم سوريا بشكل يحافظ على المصالـح الروسية بأعلى نسبة ممكنة .
الحل في سوريا من منظور روسي يسير على ما يبدو في إتجاه تقسيمها إلى دويلات ثلاث : الأولى والأكثر أهمية لروسيا هي غربي سوريا وتضم الأقـلية العلوية وقسماً لا بأس به من الأقـلية المسيحية ويحتوي على مينائي اللاذقية وطرطوس حيث التواجد العسكري الروسي ، في حين ستقوم إيران وقوات حزب الله بتعزيز تلك الدويلة من خلال التركيز على المناطق الواقعة جنوب إقليم حلب وعلى امتداد جزء من الحدود مع لبنان مروراً بمنطقة القـَلـَمون إلى ضواحي دمشق . والهدف الحقيقي لروسيا من ذلك ينصب على دفع نيران قوات المعارضة بشكل عام بعيداً عن حدود هذه الدويلة العلوية والقواعد العسكرية الروسية المتواجدة فيها . والثانية هي دويلة كردية في بعض أجزاء شمال سوريا ، أما الدويلة الثالثة فهي تضم باقي مكونات الشعب السوري بأغلبية سنية واضحة وتشمل باقي أجزاء سوريا .
هذا هو المنظور الروسي الحالي لخيار التقسيم وهو قائم على حماية المنطقة العلوية التي تحتوي على الوجود العسكري الروسي . وبالطبع ، فإن المجال ما زال مفتوحاً أمام تغييرات قد تؤدي إلى زيادة عدد الدويلات ولكنها لن تحيد عن نهج التقسيم إلا إذا طرأ من التطورات الدولية والأقليمية ما يدفع الأمور في مسار جديد .
الحل القادم يعتمد إذاً مبدأ تقسيم سوريا والباقي تفاصيل تتغير وتتبدل حسب تطور الأمور . والتقسيم يهدف إلى حماية المصالح الروسية في سوريا والتي ترتبط الآن إرتباطاً وثيقاً بنظام الحكم العلوي .
المعضلة السورية هي في النتيجة معضلة العرب . والتأييد الأعمى والإنحياز المتعصب والتخوين والتشكيك هي اصطلاحات وَصِفـَاتْ تلازم كافة أطراف الصراع في سوريا من سوريين وعرب في تعاملهم مع بعضهم البعض . وهذا الأمر يجب أن ينتهي . فالمهم الآن هو وضع حد لهذا الصراع وإنقاذ الوطن السوري والشعب السوري وليس إنقاذ نظام ما أو دحره . فهذه أهداف صغيرة مقارنة بالهـدف الكبير المتمثل بإنقاذ الوطن والشعب السوري . وما لم يتفق السوريون على هذا الهدف ، فإن الصراع سوف يستمر وستتم تغذيته من كافة الأطراف إلى أن يتم تدمير الوطن السوري وتتم كسر إرادة شعبه بعد أن يتم إفقاره وتجهيله وتشتيت الأجيال الصاعدة منه .
روسيا وأمريكا لن تخوضا فيما بينهما حرباً أو نزاعاً عسكرياً مباشراً من أجل سوريا . وإذا ما تفاقمت الأمورفإن النزاع العسكري سوف يكون غير مباشر طرفاه سوريان ، منهم من هو مع النظام ومنهم من هو ضد النظام ، وبالتالي فإن الضحايا سوف يكونوا في كل الأحوال سوريين .
الرواية المنقوصة وإحتكار الحقيقة بالرغم عن أي شئ هي ما يميز الوضع السوري الآن . وعملية حرمان المجتمع السوري من أي قيادات سياسية هي إحدى نتائج سياسات نظام عائلة الأسد الأمر الذي دفع الجماهير السورية الغاضبة إلى الدخول في تيه الحرب الأهلية ومن ثم السماح للأجنبي بالنفاذ داخل نسيج المعارضة التي كانت تفتـش وتبحث عن قيادات وتنظيمات وطنية . ولكن المرء يحصد ما يزرع ، وما زَرَعَهُ نظام الأسد كان إما النظام أو الفراغ وكلاهما كما أثبتت الأحداث سئ ودفع بسوريا والسوريين إلى حضن الآخرين .
إن التأييد الأعمى لنظام الأسد من قبل بعض الأقليات في سوريا يأتي منسجماً مع سياسة حرمان المجتمع السوري من أي خيار آخر . والمستفيدين من النظام السوري يغالون في تأييدهم إلى حد تجريم وتخوين أي رأي آخر . وهذا النهج هو ما تعاني منه سوريا الآن .
وللأسف لا يوجد حل سوري أو عربي للصراع في سوريا لأنه تحول عملياً إلى صراع دولي وإقليمي على سوريا بين قوى غير سورية . ولا يجوز أن يبادر البعض إلى لوم وإدانة تلك القوى فهي تحافظ على مصالحها وهذا حق لها ، في حين قام السوريون نظاماً ومعارضة بالتفريط في تلك المصالح مقابل دعم مصالحهم الذاتية وتـَبَعـِيـﱠتهم للآخرين على حساب الوطن السوري ومصالحه .

1