أحدث الأخبار
الاثنين 23 كانون أول/ديسمبر 2024
انتفاضة القدس!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 21.10.2015

واضح أن وسائل الإعلام العربية المختلفة مهتمة جدا بانتفاضة جديدة يقوم بها الشعب الفلسطيني، والكل يسأل فيما إذا كان هناك انتفاضة ثالثة وفق ما يسمونها أم لا. وللتصحيح، إذا كانت ستكون هناك انتفاضة جديدة فهي رق4م 25 في التاريخ الفلسطيني منذ عام 1920. لقد قام الشعب الفلسطيني بانتفاضت كثيرة عند كل منعطف مرت به القضية الفلسطينية. فمثلا قام بانتفاضة في منطقة يافا عام 1920، وأخرى في القدس عام 1920 أيضا. وحصلت انتفاضة عام 1923ن واخرى عام 1927. وقامت انتفاضة البراق الشهيرة عام 1929 عندما دنّس اليهود حائط البراق الذي يسمونه حائط المبكى، وأسفرت عن قتل حوالي مائة وستين من اليهود، ىوحوالي مائة وعشرين شهيدا من الفلسطينيين، ولم تهدأ الأمور إلا بجهود القيادات الفلسطينية التي تتطوع دائما لتهدئة الأوضاع والجنوح نحو الحوار غير المتكافئ والبحث عن حلول سلمية تنتهي على حساب الشعب الفلسطيني. ثم حصلت انتفاضات أخرى كان على رأسها الإضراب الكبير عام 1936 والذي استمر حوالي ستة أشهر، وأفسدته أيضا القيادات السياسية الفلسطينية والعربية. وقاغم الشعب الفلسطيني بثورة مسلحة خلال الإضراب استمرت لمدة ثلاث سنوات وانتهت عام 1939، والتي طرح الإنكليزي بيل مشروعه لتقسيم فلسطين والذي رفضه العرب واليهود كل لأسبابه الخاصة.
سمتان انتفاضيتان
من الملاحظ تاريخيا أن الانتفاضات اتسمت بسمتين رئيسيتين وهما:
1- أن الانتفاضات تنشب عندما يحصل فراغ سياسي ونضالي في الساحة الفلسطينية تغيب فيه القيادات التي يمكن أن تدافع عن الحقوق الفلسطينية. شهدت الساحة الفلسطينية فراغات نضالية متكررة على مدى مراحل الصراع في فلسطيني، وكانت الجماهير الفلسطينية هي التي تهب وتأخذ مكان القيادات السياسية والثورية وتدافع عن الحق الفلسطيني. كانت تصاب القيادات الفلسطيني في عدد من الأوقات بالشلل وتتراجع كثيرا في نشاطاتها السياسية المختلفة فتغيب القضية الفلسطينية عن الأذهان والوعي الفلسطيني والعربي ويضع8ف الاهتمام بها. هكذا حصل عام 1987 عندما بدت القيادة الفلسطينية عاجزة تماما وضعفت حركتها إلى درجة أن القضية الفلسطينية أخذت تغيب عن المحافل الدولية وعن المؤتمرات، وحتى عن أذهان العديد من أصحاب القضية. وتكرر المشهد عام 2000 عندما كانت تستهتر إسرائيل بالفلسطينيين، وعندما جندت الفلسطينيين ليكونوا حراسا على مملكة إسرائيل من خلال التنسيق الأمني والتطبيع والإلحاق الاقتصادي.
2- كل الانتفاضات التي حصلت عبر التاريخ الفلسطيني لم تنجب ثمارا جيدة يقطفها الشعب الفلسطيني. دأب الفلسطينيون على تقديم الكثير من التضحيات في النفوس والبيوت والأشجار والمزارع ولكن دون جني فوائد فيما يتعلق بالتخلص من الانتدالب البريطاني والغزو الصهيوني وتهويد البلاد. وفي كل انتفاضة كانت القيادات السياسية تسلك طريق المساومة والمهادنة الأمر الذي كان ستغذى على تضحيات الناس ويفسد ثمارها. وقد شهدت انتفاضة عام 1987 أكبر مفسدة حيث أن النتيجة كانت اعتراف القيادة الفلسطينية بالكيان الصهيوني.
انتفاضة القدس
تشهد الضفة الغربية الآن وبعض المواقع الفلسطينية في الأرض المحتلة/1948 حراكا شعبيا أطلقت عليه وسائل الإعلام انتفاضة القدس. وقد بدأ هذا الحراك في مدينة القدس التي شهدت اعتداءات صهيونية متكررة على المسجد الأقصى، وعلى شباب فلسطين الذين استشهد بعضهم بسبب تمارين جنود إسرائيل على قنص الفلسطينيين. شهدت مدينة القدس أعمال ثأر فلسطينية كانت تتميز باستعمال السكاكين والسيارات الداهسة. عاشت الأرض المحتلة/67 فراغا وطنيا كبيرا حيث أن إسرائيل أمعنت في اعتداءاتها دون أن تتلقى ردود فعل من الفصائل الفلسطينية أو من السلطة. شعر الفلسطينيون بالاستضعاف والمهانة والمذلة، فأخذ بعضهم يقرر الانتقام بصورة فردية. ولا شك أن الأعمال الفردية التي كانت تحصل رفعت من معنويات الناس العاديين، وأعطتهم أملا وقناعة بأن فلسطين لن تموت وسيبقى هناك من يقاوم، ومن يأخذ بالثأر لدماء الشهداء وللمسجد الأقصى. ارتفع منسوب الاحتقان الفلسطيني مع الأيام بخاصة أن إسرائيل لم ترتدع بسبب أعمال الطعن والدهس الفردية، فقررت القدس أن تنتفض في مواجهة الغطرسة وانتقاما من الأعداء وثأرا للدماء.
من الصعب لغاية الآن أن نصف ما يجري في الأرض المحتلة/67 أنه انتفاضة جماهيرية وذلك بسبب ضعف المشاركة الجماهيرية. حتى الآن لم تتسع أعمال الاحتجاج الفلسطينية لتشمل مختلف التجمعات السكانية الفلسطينية، وعدد التجمعات التي شاركت حتى الآن لا تشكل النسبة الأكبر. يبلغ عدد التجمعات السكانية في الضفة الغربية حوالي 500، ولم يشارك حتى الآن إلا بضع عشرات منها في المواجهات ضد الاحتلال.
تغيب عن الحراك الفلسطيني الآن تجمعات مهنية ونقابية عديدة مثل الأطباء والمهندسين والأكاديميين والمحامين، ومشاركة مختلف الأعمار ضعيفة. الشباب والشابات هم الذين يقودون الحراك، والجيل الأكبر ما زال ينظر من بعيد دون أن يتحرك بفعالية. كم أنه لم يتم تشكيل لجان جماهيرية في مختلف المدن والقرى والمخيمات، ولا مفر من تشكيلها إذا جد الجد وأخذ الحراك الفلسطيني مستوى جماهيريا أكثر اتساعا. طبعا هذه اللجان حيوية من أجل تسيير الحياة اليومية للناس، والوقوف على احتياجاتهم من ماء وطعام وعلاج، وأيضا لتنسيق أعمال المنتفضين ووضع البرامج المختلفة للفعاليات اليومية.
وهذا الحراك يتفاعل الآن في ظل التنسيق الأمني مع الصهاينة، والتطبيع والإلحاق الاقتصادي. كما أنه لا يتوفر بعد احتياطات غذائية لمد المعوزين والفقراء، ولا يتوفر برامج توعوية للناس لحشدهم خلف الحراك القائم. المعنى أن المسرح الملائم لانتفاضة جماهيرية تمتد على مساحة الضفة الغربية ليس جاهزا، والحراك باتجاه تجهيزه شبه غائب.
النقطة الأهم في كل الموضوع المتعلق بامتداد الحراك ليتحول إلى انتفاضة تتعلق بجهوزية الضفة الغربية ثقافيا ووطنيا ومجتمعيا للتحرك. الضفة الغربية تعاني كثيرا من تقلص الثقافة الوطنية والتي حلت محلها الثقافة الاستهلاكية. لقد أشغلت السلطة الفلسطينية وإسرائيل والدول الغربية الناس بهموم مختلفة عن الهم الوطني، وربطت حياتهم اليومية بهذه الهموم والتي لها علاقة بالأمور المعيشية والمالية. تراجعت الثقافة الوطنية، وفقد الناس الكثير من ثقتهم بالقيادات الفلسطينية والفصائل، وأخذ الناس يعزفون عن المشاركة ظنا منهم أنهم يضحون من أجل أن يقطف الانتهازيون الثمار من خلال مساوماتهم على الحقوق الفلسطينية. حتى أن ثقة الناس بعضهم ببعض قد تدهورت إلى حد كبير. العلاقات بين الناس تقوم الآن على الشك المتبادل، وهذا نوع من العلاقات لا يصلح للعمل الجماعي الذي يتطلبه الحراك الفلسطيني ضد الاحتلال من المفروض العمل على قلب العلاقات القائمة حاليا لتصبح قائمة على الثقة المتبادلة، لكن هذا المفروض لن يحصل ما دامت السلطة الفلسطينية تتحكم بمؤسسات الشعب الفلسطيني.
لكي ينجز الفلسطينيون شيئا
الانتفاضات الفلسطينية، كما أشرت أعلاه لم تنجح بمعنى أنها لم تنجز أي شيء له علاقة بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني والدليل على ذلك أن الاحتلال ما زال جاثما على صدر الوطن والمواطنين، وحقائق الأمر الواقع التي يفرضها تزداد يوما بعد يوم. والانتفاضات ذات سيرة متشابهة في أغلب المرات، بمعنى أن الفلسطينيين يتبعون ذات الأساليب الانتفاضية والتي تتمثل بقذف الحجارة وإصدار البيانات وإحراق إطارات السيارات والمظاهرات والكتابة على الجدران، الخ. هذه أنماط اعتاد عليها الاحتلال، وهو دائما يبرمج إجراءاته القمعية وفق ما يتوقعه من نشاطات فلسطينية. وحيث أن توقعاته تكون صائبة في أغلب الأحيان فإنه مطلوب من الفلسطينيين تغيير تكتيكاتهم الميدانية لكي يربكوا الجنود الصهاينة. الجيش الإسرائيلي مدرب على قمع الاحتجاجات الفلسطينية، ولديه خبرة في هذا المجال، لكن هذه الخبرة تصبح بلا فائدة إذا غير الفلسطينيون أنماط مواجهاتهم وأعمالهم ضد الاحتلال. صحيح أن الإجراءات الصهيونية ضد الناس تؤدي إلى ردود فعل عكسية، لكن علينا الانتباه إلى أن الإنجازات الفلسطينية ترفع من الروح المعنوية للناس، وتؤدي إلى رفع مستوى المشاركات في الأعمال الجماهيرية.
ولكي يحقق الفلسطينيون إنجازات حقيقية من المستحسن أن يبقوا قياداتهم السياسية خارج المشهد النضالي الفلسطيني لأن الإحصاءات تشير إلى أن الشعب يقدم التضحيات والقيادات تقدم التنازلات. الشعب الفلسطيني ليس بحاجة لمن يساوم على الوطن والحقوق، وأبرع المساومين هم الذين يدعون تمثيل هذا الشعب، وهذا ما خبره الشعب الفلسطيني منذ بداية تطبيق الاتفاقيات مع الصهاينة.
والنقطة الأخرى نحو تحقيق إنجاز تتعلق بالاستمرار. الشعب الفلسطيني يعاني من مشكلة النفس القصير بسبب قياداته، وكل مرة يتحرك لمواجهة الاحتلال يقدم التضحيات الجسام. شبابه يستشهدون، وبيوته تدمر وأشجاره تقتلع وأبناؤه يودعون السجون، وفجأة يتوقف الحراك دون تحقيق إنجاز. لقد دفع الشعب الفلسطيني الكثير من التضحيات عبر السنوات ولكن بالتقسيط. ماذا يمكن أن يحصل لو استمر الشعب بنشاطاته على فترة طويلة ودون أن يكل أو يمل؟ هل سيحقق نتيجة إيجابية؟ تقديري نعم. أن يدفع الشعب التضحيات الكبيرة دفعة واحدة أفضل من دفعها بالتقسيط. لو أخذنا العمليات الاستشهادية كمثال لوجدنا أنها عمليات أرعبت إسرائيل وأصابت أناسها بالذعر والهلع، واضطر أناس كثيرون لمغادرة إسرائيل إلى غير رجعة وذلك بحثا عن الأمن والأمان. لكن هذه العمليات توقفت فجأة وأفرغت بعد ذلك من مفعولها. فإذا كانت روح الاستمرار غائبة فإن النتائج الإيجابية غير مضمونة.
والنقطة الهامة أيضاتتمثل في تحويل الانتفاضة إلى مقاومة. هل يعقل أن أتوقع نتائج إيجابية من انتفاضة تحصل في ذات الوقت مع التنسيق الأمني والتطبيع مع الصهاينة، وفي ظل إقبال الفلسطينيين على شراء البضائع الصهيونية؟ طبعا هذه سلوكيات متناقضة. الانتفاضة احتجاج ولا تندرج تحت عنوان المقاومة، ومن الأفضل للفلسطينيين أن يعيدوا التفكير في الأعمال الاحتجاجية لأنها قاصرة عن طرد الاحتلال. ولنتذكر دائما أن إسرائيل تحتل فلسطين بالدبابات والمدافع وليس بالزهور والورود، وإذا لم يكن التعامل بالمثل فإن الطرف المسالم يبقى هو الخاسر. هذا الحراك القائم الآن ينقسم إلى شقين: شق السكاكين وهو الذي يرعب إسرائيل ويوتر أعصابها ويهز أركانها الأمنية، وشق الحجارة الذي يكلف الفلسطينيين ثمنا باهظا جدا. صحيح أن الحجارة تأتي بالإعلام العالمي وتساهم في إفهام شعوب الأرض قضية فلسطين لكنها تكلف الفلسطينيين العديد من الشهداء والجرحى. والحكمة تقول أن على المرء أن يعزز ما ينفعه ويتخلص مما يضره. ولهذا على السلطة الفلسطينية أن تعيد الأسلحة التي صادرتها من أيدي الفلسطينيين إلى أصحابها دون أن تخبر الاحتلال عن هؤلاء الأصحاب إن لم تكن قد أخبرتهم.

1