أحدث الأخبار
الاثنين 23 كانون أول/ديسمبر 2024
أيها الطّبل كفى…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.07.2015

هل تلاحظون معي أن «الطبل» صار يحتل مساحة أكبر على مسارح ومهرجانات الغناء العربي، حتى بات الطبل جزءا لا يتجزء من ظهور بعض الفنانين!
ظهر الطبل الكبير في مسلة سومرية منذ العام 2600 قبل الميلاد، كان الكهنة يستخدمونه لدعوة الناس إلى المعبد أو لإخبارهم بأمر هام. وذكر عند العرب أن الضرب على «طبل الرجوج» كان يعني بدء معركة بين عبس وذبيان.
وحسب المؤرخ المصري (يوسف بن تغري بردي)، كان أول من أنشأ فرقة (طبلخانة) مؤلفة من (طبول وصنوج ونقارات وأعلام) بشكل منظم ورسمي، الخليفة العباسي الطائع في عام 978م، كانت مهمة (الطبلخانة) الطواف في المناسبات مثل الأعياد، أو الإعلان عن شفاء الخليفة بعد مرض، أو بلوغ ولي العهد سن الرشد أو احتفاء بإنجاز عسكري.
أحاول تحليل هذا التهافت المتفاقم على استخدام الطبل في المهرجانات الغنائية والانجراف المتفاقم لبعض الفنانين مع هذه الموجة التطبيلية! وعندما أقول (طبل) لا أقصد الطبلة الناعمة ضابطة الإيقاع التي ترقص عليها أصابع الفنان، ولا الدرامز متعدد الإيقاعات والأصوات، ولا الرق ومآثره الكثيرة، بل (الطبل الطبل)، الذي يضربه الطبال بعصا ذات رأس كروي ضخم، فينجم عنه صوت (ليس لأصحاب القلوب الضعيفة).
يبدو لي أن مشاعر الجمهور العربي في السنوات الأخيرة تبلدت وغلظت ولم تعد تثيرها أنفاس الناي، ولا لمسات الأنامل للقانون، ولا وجيب القلب على العود ولا القوس يدغدغ أوتار الكمان، كأن المشاعر باتت من الإسمنت المسلح الذي يحتاج إلى قصف بقنابل خارقة للتحصينات.
اتساع وظيفة «الطبل» ونفوذه، يشير إلى أزمة ليس فقط في الإبداع الفني، بل إلى أزمة لدى المتلقي أيضا، فالمتلقي الذي كان ينتظر عذب الكلام والأنغام المداعبة لأشد مشاعره حساسية، بات أكثر استعدادا لتلقي «قصف وحشي» على الطبل!
تشعر أن ثقافة الاستماع المرهفة للألحان المركبة التي أبدعها عمالقة الموسيقى باشتراك عدد كبير من الآلات في تراجع خطير أمام هجمة «الطبلونامي»، تراجعت ثقافة الحوار بين الآلات، فلا صوت يعلو فوق صوت الطبل، عندما يدمدم الطبل، فعلى القانون أن يُسكتَ مفاتيحه الاثنين والسبعين، هذا إذا وجد مع الفرقة أصلا، وعلى العود الذي قال فيه الكندي إنه «آلة الفلاسفة»، أن يتقمص دور الطقاشة حتى يرضى الطبل عنه، وعلى عازف الكمان أن يستحي من نفسه ويرمي قوسه ويلتزم الصمت حتى يأذن الطبل له، وعلى البيانو أن يلزم حدّه وأن لا يتدخل في شؤون الطبول الكبار، وعلى الطبلة والرق أن يشفقا على نفسيهما أمام هذا المتوحش الذي يشبه البرميل إلى حد بعيد.
جمهور المهرجانات العربي مكتظ بطاقات مكبوتة يحتاج لتفريغها، يستبعد المشاعر والعقل ليغرق في طوفان «الطبلونامي». جمهور لا يريد أن يسمع ولا أن يتأمل، يريد إثارة سريعة ومباشرة، دمدمة ثقيلة من إيقاع واحد أو اثنين وفي الكثير ثلاثة إيقاعات، يتهيج في حركات انفعالية مصطنعة، بعضهم..(قال) يفقد السيطرة على نفسه ويقف على الكراسي والطاولات «من شدة الطرب»، وهو أمر لم يستطع زرياب أبو الحسن علي بن نافع أن يسببه لجمهوره الأندلسي، رغم إضافته الوتر الخامس للعود وتأسيسه غناء الموشحات وإبداعه الزلابية (الزريابية).
لا شك أن هناك علاقة تربط الاجتماعي والسياسي والفني بعضه ببعض، وإن كانت غير واضحة أو مستترة، وحيث يرتقي السياسي ترتقي معه بقية جوانب الحياة في الأخلاق والفن والرياضة والإبداعات والعلوم. في حقبة ما من الازدهار كان الموسيقيون فلاسفة، الفارابي كان طبيبا وعالم فلك وفيلسوفا طوّر آلة القانون لتصبح بالشكل الذي نراه اليوم، الكندي تحدث عن العود ومقاييسه كموضوع علمي فلسفي في غاية الأهمية، وليس مجرد آلة تصدر مختلف النغمات، واعتبروا أن الطبيب لا يكتمل مهنيا إلا بتعلم الموسيقى، بل آمنوا بقدرة الموسيقى على علاج المرضى، روحيا وجسديا، وقسّموا المقامات للعلاج فمقام (الراست) مثلا يعالج الشلل النصفي، شرط أن يكون العازف محترفا إلى جانب الطبيب، وهذا علم (العلاج بالموسيقى) ما زال يتطور في الغرب وتوقف عندنا منذ ألف عام.
الطبل كما يقدم لنا في المهرجانات هو أداة إعلانية ديماغوغية أكثر منها آلة طرب، وليس صدفة أننا نصف غليظ المشاعر بأنه طبل!
نحن لا ننكر دور الطبل، ولا شك إن للطبل دوره في المارشات العسكرية مثلا، ولكن المشكلة أن الطبل صار يفرض نفسه وضجيجه على كل شيء، الطبل يقمع الأصوات العذبة، الطبل يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، يضربه الطبال بأشد ما يستطيع من القوة، داعيا الجمهور إلى المشاركة بحركات ضرب الأقدام بالأرض وليس الدبكة الجميلة الفنية التي لها أصولها، الطبل في الموسيقى يوازيه الشبيح في السياسة الذي يدوس كل شيء بغلاظته، لا يفهم لغة حوار، لا يتقبل الصوت الآخر، أمثال هذا الطبل كثر، حتى أنهم يقفون في البرامج الفضائية ويهاجمون المتحاور معهم ويحاولون «طبله» بأيديهم وأرجلهم، بهدف إخماده أمام ملايين المشاهدين بلا حياء، تماما كفعل الطبل مع الكمان والعود والناي وغيرها.
تذكروا أيها الأخوة، عندما تمر هذه الحقبة التشبيحية السوداء من تاريخ أمتنا، ستلاحظون تراجع موجة «الطبلونامي» تلقائيا، بحيث لا يصدر عن الطبل ولا تطبيلة واحدة إلا بعد استئذان وفي غاية الذوق.. أيها الطبل كفّ تطبيلك عنا.

1