أحدث الأخبار
الاثنين 23 كانون أول/ديسمبر 2024
مدرسة التجديد الإسلامي:الحكم الشرعي والحكم الفقهي!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 10.03.2015

هناك من الناس من يظن أن كل فتوى تصدر عن رجل دين أو فقيه صحيحة ويأخذون بها على اعتبار أن الفقيه مؤتمن ولا يمكن أن يزيغ أو يراعي ظروفا خاصة في فتواه. وهناك زحمة في المفتين في العالم الإسلامي، ويبدو أن كل من أطلق لحيته أصبح مفتيا ويملك حقا في إصدار ما يرى مناسبا من الفتاوى.
هنا لا بد من التحذير من أن هناك ما يعرف بالحكم الشرعي، وما أسميه بالحكم الفهي. الحكم الشرعي هو ذلك الحكم الذي ينطبق على الناس جميعا مستندا إلى نص قرآني واضح لا تأويل فيه، أو على حديث صحيح مدقق ينسجم تماما مع التعاليم الواردة في القرآن الكريم. إنه شرط أساسي أن يكون الحكم الشرعي مستندا إلى نص.
أما الحكم الفقهي فهو يعبر عن اجتهاد فقيه أو فقهاء دون أن يكون مستندا إلى نص، أو يمكن أن يكون مستندا إلى نصوص خارج المصادر الأولية للتشريع الإسلامي. طبعا هناك اجتهاد في الإسلام، والاجتهاد الصحيح هو الذي يستند إلى دراسة معمقة في النصوص الأصلية، ولا يصدر إلا بعد وضع صورة المسألة قيد البحث داخل الصورة الكلية للنصوص لكي يرى المجتهد كيف يتم دخولها ضمن هذه الصورة. أي أن الاجتهاد لا يرتكز فقط على نص واحد يمكن أن يُفهم بصور مختلفة، وإنما يرتكز على صورة كلية مكونة من مجمل النصوص القرآنية والأحاديث ذات الصلة. فمثلا عندما اجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حول عدم قطع يد السارق بسبب مجاعة أو قحط قد ألم بالبلاد، استند إلى صورة إسلامية كلية حول مراعاة ظروف الناس ومسؤولية الأمة الإسلامية عن توفير لفمة الخبز لأبنائها. وعندما اجتهد حول زواج الجند من بنات الشام نظر إلى الصورة الكلية الخاصة بالزيجات والتي تحول دون نشوء أمراض اجتماعية في المجتمع المسلم. المعنى أن نصا واحدا غير قطعي لا يكفي للاجتهاد وإصدار الفتاوى.
هذا علما أن الاجتهاد ابن زمانه ومكانه، ولا يصلح لكل زمان ومكان. ظروف الزمان والمكان تؤثر في اجتهاد المجتهد، واجتهاده في النهاية يعكس طريقته في معالجة ظروف زمانه ومكانه، ومحكوم بالحدود المعرفية للزمان والمكان. شكرا لكل الذين اجتهدوا من واقع حياتهم، وجزاهم الله كل خير، لكن هذا لا يعني أن اجتهادهم قد تحول إلى أقوال مقدسة وأحكام شرعية قطعية. باب الاجتهاد في الإسلام مفتوح دائما من أجل أن يتمكن الناس من معالجة مختلف القضايا التي تطرأ عبر الزمان والمكان. والمؤسف أن أغلب الفقهاء عطلوا الاجتهاد وعطلوا في النهاية العقل المسلم وشلوا قدرة الأمة على التفكير.
نحن نعاني الآن من زحمة الفتاوى وكثرتها إلى درجة أنها أحالت يسر الإسلام إلى عسر وعقدت الدين وحولته إلى عبء ثقيل على الناس. الآيات القرآنية التي تحمل تشريعات تتصف باليسر وتعطي في الغالب خطوطا عريضة يستطيع المسلم أن يجتهد بتفصيلاتها، لكن الفقهاء استمروا عبر الزمن بوضع التفاصيل وتفاصيل التفاصيل حتى أغلقوا على المسلم منافذ العقل والتفكر والتدبر والنظر. لقد عملوا على تقييد تفكير المسلمين وشلوا العقل المسلم إلى درجة أن الدين الإسلامي وفق طروحاتهم قد أصبح أكثر تعقيدا من الدين اليهودي الوارد في كتاب اليهود المعتمد لديهم الآن.
ليس كل ما أتى به الفقهاء صحيح، وعلينا أن نكون حذرين في التعامل مع الفتاوى التي تراكمت عبر القرون. هناك فقهاء يفتون للسلطان لكي يبرروا له سوء صنيعه. هؤلاء مزورون وأفاقون ومنافقون وكاذبون لا يتقون الله، وعلينا ألا نستمع إليهم، ومثال على فتاواهم يتمثل في فقههم الخاص بعدم الثورة على الحاكم الظالم لأنه لم يصبح حاكما إلا بأمر الله سبحانه. فقهاء السلاطين والحكام يعبدون المال ويبحثون عن رضا السلطان، وهم ليسوا مؤتمنين على الأمة ودينها، والمفروض أن يتكون لدينا موقف مسبق من فتاواهم حتى لا نقع فريسة لأقوالهم.
وهناك من الفقهاء من تأخذه العادات والتقاليد بعيدا فيظن أن ما نشأ عليه هو الحق، ويعمل على ليّ ذراع الدين الإسلامي بطريقة تتمشى مع عادات وتقاليد المجتمع. العديد من الفقهاء أسلموا العادات والتقاليد، وأصبحت العادات والتقاليد في أغلب المجتمعات الإسلامية مقدسة لا يمكن تجاوزها، ولهذا نرى في عموم العالم الإسلامي من تنازلوا عن القرآن الكريم لتحل محله عاداتهم وتقاليدهم والقيم التي تربوا عليها منذ الصغر. هذا يظهر ساطعا في الوطن العربي فيما يتعلق بفتاوى المرأة والتي تأخذ بعين الاعتبار أن التقاليد العربية لا تحترم المرأة كثيرا، وتستعبدها إلى حد كبير.
وهناك من الفقهاء من يختزن في داخله مواقف ورؤى خاصة بعيدة عن التعاليم السماوية، لكنه يحاول أن يبحث في الكتب عن نص هنا أو هناك خارج القرآن والسنة من أجل أن يثبت وجهة نظره. هناك من لهم نزوات وتسيطر عليهم شهواتهم فيحاولون البحث عن مخارج لأفعالهم وأقوالهم على حساب الدين. وغالبا ما يكون هؤلاء من المتعصبين الحمقى الذين لديهم الاستعداد لتكفير كل الناس بمن فيهم المسلمين الذين ينطقون بالشهادتين. والأمثلة على هؤلاء كثيرة وهي متناثرة في واقعنا الحالي. لقد حول هؤلاء الدين الإسلامي إلى دين دعارة وإجرام، وصدوا عن سبيل الله.
هناك من الفقهاء من لا يتسع عقله لأكثر من خرم إبرة، ويحاول وضع الإسلام في بوتقة مغلقة ويحتكره لنفسه. مثال هؤلاء بعض رجال الدين الذين تخصصوا في دراسة الشريعة وظنوا أن دراستهم تؤهلهم هم فقط للتحدث في القضايا الدينية. إنهم يعملون على احتكار الدين ويقولون إنه لا يحق لغير دارس الشريعة أن يتكلم بالأمور الدينية. هؤلاء يشكلون خطرا كبيرا على الدين الإسلامي لأنهم يدرسون الطلاب في الجامعات والمعاهد الشرعية هذا الاحتكار وينمون لديهم مواقف متشنجة من الآخرين. وبسبب ضيق أفق هؤلاء، وإنكارهم لحقوق الآخرين في البحث بالمسائل الدينية فإنه من المفروض الحذر من فتاواهم وأقوالهم وأفعالهم. لأنهم بتصرفاتهم يخالفون قول الله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها."
أقوال هذه الأصناف من الفقهاء لا تشكل أحكاما شرعية، وإنما هي مجرد أحكام فقهية نطق بها فقهاء في الغالب عن غير علم، أو عن غير تدبر في القرآن الكريم. نحن كمسلمين لسنا ملزمين بالأحكام الفقهية. نحن ملزمون فقط بالأحكام الشرعية الواضحة وضوح الشمس، ولا نقبل أن نتحول إلى عبيد عند الذين يقمعون الرأي ويقمعون الفكر الإسلامي ويحجمونه ويضيقون عليه. لقد خسرت أمة المسلمين كثيرا نتيجة ضيق الأفق والبلاهة الفكرية، فتخلفت وبقيت خلف الأمم علميا واجتماعيا وفكريا وثقافيا. وإذا كام للمسلمين أن ينهضوا فإن عليهم التمسك بالحكم الشرعي وألا يلتفتوا إلى الذين يحاولون حرف التعاليم الإسلامية عن مقاصدها في بناء الأفراد والمجتمعات.

1