أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
قفا نبك ونلطم وننتف لحانا!!
بقلم : سهيل كيوان  ... 20.11.2014

لأن الحاضر قاتم وظلمته حالكة، يلجأ بعضنا إلى التاريخ الجميل، فيختار دماغه، أو يختارون له، زبدة الأحداث الجميلة، قصصا ونهفات عن مآثر الخلفاء وأمراء المؤمنين وحسن صنيعهم،عدالة، مروءة، شجاعة ونخوة بعضهم مثل حميّة المعتصم التي ذهبت مثلا، ومحبة المأمون للعلم والعلماء، وموشحات الأندلس وابنة المستكفي وابن زيدون، وحسن التعامل مع المختلف في العقيدة والفكر، وبات عدد لا يستهان به من العرب يتصوّر أنه لا خلاص للأمة إلا بالعودة إلى الخلافة، فهي التي ستحقق العدالة الاجتماعية والانتصارات على الأعداء الكثيرين وتضعنا في خانة الجمال والغزل في أرقى أشكاله، ستعيد لنا أمجادنا التليدة وعزنا الضائع ومكانتنا بين الأمم، هذا بعد أن تغربل أدمغتهم التاريخ، فلا يطفو على سطح الذاكرة سوى الأحداث الجميلة ويختفي كل ما يعكر صفو نوستالجيا الأمة عن عصور الخلافة، حتى الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بدمويته، نجد قصصا عن تسامحه لا بل عن خفة ظله.
القصص الأدبية الكثيرة التي نقلت في مراحل مختلفة من تاريخ الخلافة تعكس إلى حد ما الحياة الاجتماعية ونوع النظام والحكم في كل عصر وعصر ومدى عدله أو ظلمه.
في إحدى القصص من كتاب «أخبار النساء» لإبن القيم الجوزي، باختصار «جاء إعرابي من بني عذرة إلى معاوية بن أبي سفيان في دمشق يشكو له عامله مروان بن الحكم، بأن كانت له زوجة فائقة الجمال، ولكن أصابه الفقر فأعادها والدها إليه، فذهب الإعرابي وشكا أمره لمروان بن الحكم كي يعيد له امرأته، ولكن عندما رأى مروان الإمرأة فتن بها لجمالها فسجن الإعرابي ثم أمره بطلاقها فرفض، فسلط عليه خدمه، فضربوه ضرباً لا يقدر أحد على تحمّله، ثم هدده بالقتل وأرغمه على تطليقها، ثم طلب مروان من والدها أن يزوجها له وهذا ما حصل. عندما سمع هذه المظلمة وهو في دمشق قال معاوية «اعتدى مروان في حدود الدين». المهم بدون طول سيرة، تم إحضار الإمرأة ووالدها وزوجها (طليقها)، وعندما رآها معاوية فتن بها هو الآخر وعرض على الإعرابي أن يتنازل له عنها مقابل ثلاث جوارٍ مع كل واحدة منهن ألف درهم! فأغشي على الإعرابي وشهق شهقة ظن معاوية أنه مات»ـ وعندما استفاق الإعرابي من غيبوبته قال معاوية: نخيّرها بيننا! أي بين الخليفة معاوية الذي أمر ببناء أول أسطول حربي بحري إسلامي وبين الإعرابي المدقع. هكذا كانت عدالة أمير المؤمنين! المهم أن الإمرأة لحسن الحظ لم تكن انتهازية ولم تعمل بأخلاق بعض فنانات هذا العصر، فلم تطمع بقصر ولا طائرة خاصة، اختارت العودة لإبن عمها، وفضلته على الخليفة، ويبدو أن معاوية استحى على دمه وأعادها لزوجها، وحفظاً لماء وجهه أمر بنفقة لهما.
الأخلاق والأمور نسبية، وتختلف من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، والخلافة وحيثيات نشوئها لا تصلح في عصر حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي جاءت كخلاصة للتجربة البشرية عبر القرون منذ كونفوشيوس والفلسفات اليونانية قبل الميلاد مروراٍ بالديانات السماوية، إلى الفلسفات والقوانين الحديثة المختلفة التي وضعت معايير للتعامل بين بني البشر من مختلف أجناسهم وحالاتهم مقيمين أو لاجئين، أكثرية أو أقلية، كذلك مع الحيوانات والبيئة وغيرها الكثير.
إذا أخذت الخلافة بمعايير عصرها وقارناها في مناطق أخرى من العالم حتى في أوروبا في تلك العصور فقد نجدها متقدمة، أما محاولة نسخها لهذا العصر، الذي سنت فيه قوانين لحماية مشاعر الحيوانات وحمايتها ليس جسدياً فقط، بل نفسياً كما أقر البرلمان الفرنسي قبل أسابيع قليلة، فلا نظن أن الخلافة مهما اجتهدت ستكون مقنعة في عصر الحريات الشخصية والندّية في التعامل والمساواة بين أبناء البشر جنسياً ودينياً وعرقياً وإلخ، فما بالك عندما يكون النموذج المتقدم لها الآن، هو نموذج قطع الرؤوس وسبي النساء وبيعهن أو استحلال فروجهن وإرغام الناس على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية! تخيلوا لو أن الأوروبيين والأمريكان والروس يعاملون المسلمين في بلدانهم بهذا المنطق، مثلا الإيمان بفلسفة الشك الديكارتية أو دفع الجزية أو الحرب!
أما بعد، ففي الوقت الذي يبكي فيه بعض المسلمين والعرب على أيام الخلافة، فالبعض الآخر يلطم ويجلد ذاته بسادية، ويفرض هذا على الأطفال حتى إراقة دمائهم، والأهم والأخطر تغذية الشعور وكأن أهل السنة الذين يعيشون بيننا هم قتلة الحسين وآل البيت عليهم السلام، وتصوير مأساة كربلاء كما لو حدثت اليوم وتجديدها وتجديد الحقد والضغائن ضد أبناء المذهب الآخر مباشرة أو غير مباشرة، وكأن الحسين هو ملك هذا المذهب دون ذاك. من ناحية أخرى، وفي الوقت الذي يحلم فيه البعض بإعادة عجلة التاريخ أربعة عشر قرناً، هناك من يتسابقون نحو المستقبل، فقد هبط قبل أسبوع مسبار أوروبي على مذنب يبعد أكثر من نصف مليار كيلو متر عن كوكب الأرض، وبدأ بإرسال صور من هناك، في محاولة من العلماء لمعرفة أسرار الكون ونشأته، قد يفلحون وقد يفشلون، ولكنه شرف محاولة فك أسرار الكون علمياً، فالله سبحانه وتعالى حث وحض على العلم ورفع قيمة العلماء وقدرهم حتى ساواهم بالأنبياء، والعلم المقصود ليس البت في التصفيق أو عدم التصفيق في مجلس الشورى في بحث استغرق ست سنوات! ولا في الإفتاء بأن الوقت الذي يستغرقه الملاك في تسجيل السيئات التي نرتكبها ست ساعات، بل البحث العلمي الذي يعود على الأمم بالخير والرفاه والصحة والسعادة، وهو ما مارسه العرب والمسلمون في عصور سالفة وتركوه لغيرهم فاستفاد منه وتفوق عليهم.
لا شك أن نوعية الأنظمة الفاسدة هي التي أنتجت ما نراه من ظواهر غرائبية من تخلف وهرب إلى القرون الغابرة بحثاً عن لحظات تاريخية جميلة، هذه الأنظمة التي ترصد لقمع شعوبها أضعاف أضعاف ما ترصده للبحث العلمي الحقيقي.
هذه الأنظمة التي لا تستحي عندما تظهر تقارير دولية أن ما ترصده دولة الاحتلال للبحث العلمي من ميزانيتها يعادل ما ترصده الدول العربية مجتمعة ويزيد، هذه الأنظمة التي لا تستحي من هجرة الملايين من موطنيها بحثاً عن الأمن والأمان والخبز.
إزاء هذا الواقع الغرائبي والمأزق التاريخي الذي وجدنا أنفسنا فيه، من حقنا أن نبكي وأن نلطم وأن ننتف لحانا، كذلك أن نواصل الثورات حتى تنتصر، رغم كل ما يواجهنا من منزلقات ومقاومة شرسة من أنظمة باتت عبئاً ثقيلا على الأمة، وحجر عثرة في طريق انعتاقها وحريتها واحتلال مكانتها اللائقة بها وبتاريخها بين الأمم.

1