أحدث الأخبار
الجمعة 03 أيار/مايو 2024
ديمقراطية موسيقار الهند العظيم!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 25.03.2014

في يوم 18 أغسطس 1947، في القلعة الحمراء بقلب دلهي التاريخية، رفع الشاب الموهوب بسم الله خان آلة الشيهاني، أو مزمار الموسيقى التقليدية، باتجاه السماء وعزف أمام الألوف المحتشدة ألحان الفخر باستقلال الهند. كان يعزف باسم الكون المبتهج بتحرر الهند التي كانت درة تاج الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. كان «خان» في أوائل الثلاثين من عمره ينفخ في الآلة بكل جذل، وحوله كبار قادة النضال ضد الكولونيالية البريطانية المديدة في شبه القارة الهندية، وينقل بأنغامه تلك اللحظة الفارقة إلى كل ملوك وأمراء وسلاطين وشعوب الهند في آلاف السنين التي مضت. وبعد ذلك اليوم التاريخي ظل «خان» يعزف طيلة ستين عاماً، باعثاً في تلك الآلة الموسيقية الضاربة في تاريخ البلد العريق، القيامة والحياة لتحتل قلب موسيقى الحداثة وآلاتها المعقدة في هند القرن العشرين وما تلاه. ورث «خان» آلة الشيهاني عن والده وعائلته، حيث عزف أجداده تلك الموسيقى في بلاط أمراء ولايات الهند الشمالية. وقد اختلف الهنود كثيراً باختلاف إثنياتهم وطوائفهم الدينية وأحزابهم السياسية، ولكنهم توحدوا عند ألحان هذه الموسيقى الغامضة. وعندما تصدح شيهاني «خان» في أجوائهم تسكت خلافاتهم ويطرقون السمع لها ويدندنون معها. في حضارة ضاربة في عوالم الروحيات والأسرار والغموض والآلهة الكثيرة كانت مهمة مزمار الموسيقار سهلة، بثقة وعلى مهل تطيح ببشاعات السياسة والانتهازية والفساد والمؤامرات وما ينتمي إلى كل ذلك.
وبسبب ذلك الجبروت الحريري الخفي الذي خلفه «خان» وموسيقاه يزور قبره اليوم، على ضفاف نهر جانجا في فاراناسي المدينة المقدسة في شمال الهند، قادة الأحزاب السياسية المتنافسون، من اليمين إلى اليسار. كلهم يود خطب مودة صاحب القبر، متأملاً أن يحظى بدعم الملايين من عشاقه. ليست حالة فريدة أن يتوسل السياسيون ومرشحو الانتخابات رموز الفن والموسيقى آملين في توسيع دوائر التأييد، ولكن ذلك لا يقلل من رهبة مشهد الخضوع الإرادي والإجباري للسياسة وأصحابها الباطشين أمام رهافة أنغام المزمار، وليس هذا فحسب، فالموسيقار الأسطورة يأتيه قادة الأحزاب الهندوسية والليبرالية والعلمانية والإسلامية وكل أصحاب الديانات، وهو متألق فوق الاختلافات، لا ينتسب لأي منها، يوحدها لما كان شاباً يتقافز وراء المزمار يوم الاستقلال في القلعة الحمراء، وظل يوحدها وهو يجتاز عتبة تسعينات العمر حاصداً أرفع أوسمة التقدير.
في الشهر القادم تشهد الهند وهي أكبر ديمقراطية في العالم الانتخابات العامة، وهو حدث كوني إلى حد كبير. ففي هذا البلد الذي تجاوز عدد سكانه المليار ومئة مليون سيتوجه أكثر من ثمانمئة مليون إنسان إلى صناديق الاقتراع، في عملية تستمر أكثر من شهر. يحدث هذا في بلد شاسع المساحة ومهول السكان، وحيث إرادة مؤسسي الهند الحديثة زرعت طاقة متجددة في هذا البلد تحارب كل صنوف الفشل. فهنا تتجمع كل تناقضات البشر وتتوافر كل المسوغات والتبريرات من أجل القيام بأي شيء أو خيار ممكن التفكير فيه: الفقر المدقع يجب أن تتم معالجته قبل إحلال الديمقراطية، مثلاً، أو نحتاج إلى دولة بوليسية كي تضبط هذا الانفلات الإثني والطائفي وتبقي الأمور تحت السيطرة، أو لابد من سيطرة طائفة أو إثنية قوية معينة على البلد وإلا تفتت وتقسم إلى أجزاء، وغير ذلك كثير. ولكن الحكاية الهندية الغريبة والمدهشة كتبت سرديتها الذاتية بنفسها. نقضت مقولة ضرورة التمهيد للديمقراطية بتقوية الطبقة الوسطى ورفع مستويات المعيشة إلى حدود معقولة، وقوضت فكرة الدولة السلطوية التي انتشرت في الجوار الهندي (الصيني على وجه التحديد)، ثم كشفت هشاشة النظرية الخلدونية في ضرورة وجود عصبية ما تمثل العمود الفقري للدولة، خاصة في الزمن الحديث وفي بلدان التعدديات الإثنية والدينية والطائفية.
ربما ما كان للهند أن تؤول إلى ما آلت إليه اليوم لولا تاريخها الغني والفريد وتجربتها العريضة والقديمة في التعددية والتعايش والتسامح وبناء الممالك وتداعيها. وفيها أيضاً وانصياعاً لشرطها التاريخي والتعددي نسج المسلمون خلال حقبة سلاطين المغول حالة فريدة من الحكم. فإزاء عمق التنوع وتجذره لم يكن من خيار أمام سلالة تيمورلنك وقادته الذين اتسموا في جيلهم الأول بالقسوة والخشونة والبطش إلا أن يتحولوا إلى قادة يتصفون بالحلم والأناة وسعة الصدر. فمع السلطان المؤسس بابر، في مطلع القرن السادس عشر، تأسست دولة قوية ومتماسكة وهي التي ترسخت في زمن ابنه همايون. بيد أن أوجها وعظمتها الحقيقية كانت على أيدي حفيده السلطان جلال الدين أكبر، الذي تخطت نجاحاته النطاق العسكري والجغرافي الأفقي الذي وسع به الإمبراطورية، إلى ما هو أهم وهو التجذر العمودي في بناء دولة ومجتمع يقومان على ما يقرب من مفهوم المواطنة، وبعيداً عن أية عصبية. فأكبر شاه، الحاكم المسلم، انفتح على كل المكونات المجتمعية والطائفية والإثنية في الهند وعاملها سواسية وبعدل فشعر الجميع بأنهم ينتمون إلى «مجتمع ودولة» واحدة تمثلهم وتعدل بينهم. ولأنه، وأبوه وأجداده من قبله، تزوجوا من الطوائف كلها لترسيخ عمومية وشمولية ملكهم وعدم انحيازه لطائفة معينة فإن «المكون الهندي» في دمائهم ودماء أبنائهم ظل يكبر، مما أشعر السكان الأصليين بأن هؤلاء الحكام هم من صلبهم. وضم جلال الدين أكبر إلى النخبة العليا من مستشاريه ووزرائه ودائرة صناع القرار في دولته هندوساً ومسلمين وبوذيين ولا دينيين وسيخاً مؤكداً بالممارسة، وليس فقط بالعبارة والكلمات، على حيادية الدولة تجاه الدين، وعلى رعايتها للجميع. وبخلاف الفاتحين الأوائل من المسلمين فقد ألغى الجزية عن غير المسلمين وألغى الضرائب التي كان يفرضها بعض الحكام على حجيج الهندوس وغيرهم. لقد أسس جلال الدين أكبر لمبدأ المواطنة والتعايش في الهند بحيث أصبح من المستحيل على هذا البلد الكبير وبشره الملياري أن يعيش من دون إقرار بالآخر، واعتراف به، وعدم الوقوع في أسر الطائفية والإثنية، بل تجاوز ذلك إلى أفق أكثر إنسانية ورحابة، تماماً كما فعل الموسيقي «خان» أيام حياته!!

1