أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
أوهام التسيُّس العربي!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 09.09.2013

في فهم وتحليل السياسة ومواقف السياسيين والأحزاب والجماعات ثمة بعض المنطلقات والمفاهيم التي تستخدم وتشتغل بفعالية إلى حد معقول. يمكن أن نفهم مثلًا أن سياسة معينة تقوم على الأيديولوجيا إذ تتبنى مجموعة مبادئ توجه تلك السياسة والقائمين عليها، وتستهدف تطبيق «البرنامج» الأيديولوجي المعلن. ويمكن أن نفهم أن سياسة معينة تقوم على البراجماتية حيث تكون المصلحة الضاغطة هي بوصلتها وبوصلة القائمين عليها، وفي حال اصطدام هذه المصلحة مع مبادئ سابقة فإنها تنحاز إلى المصلحة. ونفهم أن سياسة معينة تقوم على المثالية وتلزم نفسها بمجموعة مبادئ وقيم كبيرة وربما غائية وتنزع إلى تطبيقها ونشرها (أحياناً بالقوة) في سبيل تحقيق صورة المجتمع والعالم المثالي الذي يستحوذ عليها. وقد يكون الدين (وغالباً المؤدلج والمسيس) هو ما يتم استخدامه كإطار لسياسة معينة، يتم الاحتماء به أو توظيفه واستغلاله في الخطاب الذي تعتمده سياسة ما. وقد تكون السياسة المتبعة من قبل دولة، أو حزب، أو جماعة، أو فرد هي خليط من ذلك كله، فتشترك عناصر أيديولوجية وبراجماتية ومثالية ودينية، كلها، أو بعضها، لتكون الإطار العام الذي تشتغل فيه تلك السياسة.
كثيرون يرون أن الأمر الأساسي الذي يحتل موقع القلب في كل تلك المفاهيم والمنطلقات والأيديولوجيات والمبادئ المعلنة أو غير المعلنة، المثالية منها وغير المثالية، هو المصلحة الضاغطة لللاعبين السياسيين. سواء أكان أولئك اللاعبون أحزاباً أم دولًا فإن مصلحة الحزب أو مصلحة الدولة وبقاءها هما الشاغل الأكبر والأهم. كل الادعاءات الأيديولوجية والشعارات الكبيرة تُزاح جانباً ويتولى «محرك المصلحة» قيادة السياسة وتوجيهها. ويمكن القول إن جل التسيس الإنساني عبر التاريخ كان مَقوداً بهذا المحرك سواء أقر بذلك السياسيون أم لا. وكلما كانت المصلحة عارية وفجة فإنها تتدثر بشعارات أكثر وتزعم اتساقها مع مبادئ معينة، أو أن ما يراه الآخرون من انجرافها وراء مصلحتها هو في الواقع لنشر مبادئ معينة أو الدفاع عنها. كل حروب التوسع والغزو واحتلال أراضي الآخرين في التاريخ البشري منذ عهود الفراعنة والإغريق إلى الصين والهند والرومان والفرس والمسلمين والأوروبيين كانت تتدثر بالمبادئ، فيما هي خليط من دوافع ومصالح وأهداف سياسية عديدة.
في الوقت الراهن هناك الكثير من التسيس العربي الذي يتحدى كل تلك المفاهيم ولا يندرج في أي سياق منطقي للفهم. فهناك أطراف سياسية، أحزاب، وجماعات، وحكومات، ودول عديدة تتبنى سياسات ومواقف يصعب تفسيرها وفهمها من منظور أي منطلق من المنطلقات التقليدية المعروفة في فهم السياسة، إذ لا علاقة لها بالمبادئ، أو تندرج وفق منطق المصالح، وبعيدة العقلانية والبراجماتية التي تسم السياسة الرشيدة. يكفي التأمل في جنبات المشهد السياسي العربي، من مصر، إلى سوريا، إلى العراق، إلى ليبيا ثم تونس، ومواقف الأطراف الإقليمية، حيث تسود دوافع وعوامل تكاد لا تنتمي للسياسة بشيء، لكنها تقود التسيس وتتحكم فيه. ويمكن رصد أكثر من «آلية» تتحكم في التسيس الراهن.
تتربع على عرش آليات التسيس العربي الراهن اللاعقلانية وهي التي تسود معظم الفعل السياسي ورد الفعل. ومراقبة السيرورة السياسية أي من بلدان «الربيع العربي» تقدم الدليل تلو الدليل على أن البعد عن العقلانية يكاد يكون هو القاعدة المشتركة التي تلتقي عندها معظم الأطراف. فاللاعقلانية هي التي حكمت الوعود والبرامج الانتخابية التي رفعت أسقف التوقعات عند الناس وكأن البلد سيتحول إلى جنان وارفة في اليوم التالي للانتخابات. واللاعقلانية هي التي حكمت سياسة الأحزاب التي فازت في الانتخابات وظنت أنها حازت على تفويض كوني بأن تفعل ما تشاء وكيف تشاء. واللاعقلانية هي أيضاً التي حكمت سياسة الأحزاب المعارضة حيث أصبح تحطيم الآخر، والذات والوطن معه، هو البوصلة.
في السياسة اللاعقلانية تغيب البراجماتية التي تعتمد اللقاء في منتصف الطريق، والتي تحسب حسابات الربح والخسارة بدقة، تتقدم حيث يفسح المجال، وتتراجع حيث تضغط الظروف. وفي السياسة الراشدة والمصلحية تكون المساومة واللقاء في منتصف الطريق بين الأطراف هي السياسة الهادية، وليس الحرد، والانتقام، وإدارة الظهر كلياً. ويكون الانشغال في توسيع مربع الأصدقاء وتقليل الأعداء أو تحييد ما أمكن منهم. على العكس من ذلك رأينا «إبداعات» حزبية وحكومية وإقليمية في ممارسة سياسات تزيد من الأعداء، وتقلل من الأصدقاء، من دون أي تسويغ أو ضرورة لذلك. ورأينا كيف أن التراجع عن خطوات أو سياسات مدمرة لا يمكن أن يتم، حتى لو جلب الدمار والحطام على الذات، الحزبية أو الحكومية، ناهيك عن الوطن. ولهذا تسود الحيرة وسط الرأي العام، حتى في الشرائح البسيطة منه، حيث تسير أمور السياسة على الضد من أي منطق سليم وتكون مرئية تحت الشمس وفي رابعة النهار، ولكن الطرف المعني يكون قد ركبه العناد والتصميم اللاعقلاني.
ولكن ذلك العناد والتصميم اللاعقلاني يحتاج إلى دوافع ومحركات إضافية حتى يواصل حركته التدميرية، وهنا تتدخل الغرائزية والانتقامية لتوفر الوقود المطلوب. وهنا تتم عملية استدعاء تقاليد الثأر والانتقام التي لا تنتسب إلى العقل ولا المنطق ولا العصر الحديث. فالحس الانتصاري يتقولب في عقلية ثأرية لا ترى شرعية في الحياة السياسية إلا لصاحبها، وتريد إقصاء كل الباقين. وتتبادل الأطراف مواقع الجلاد والضحية كما في لعبة الكراسي الموسيقية، والكل يتدثر بخطاب الضحية، والكل مشحون بغريزة الانتقام، والكل يريد للخصم، مهما كان كبيراً أو صغيراً، أن يختفي عن أرض الوجود، وينخرط في عملية إقصائه بكل جهد ممكن، حتى لو أدى ذلك إلى فنائه هو ذاته، ليسقط الحطام على رأس الوطن والناس والشعب المسكين.

1