أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
فرصة الانكشاف الإسلاموي في الحكم!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 24.07.2013

لاحت فرصة تاريخية مع «الربيع العربي» وما تلاه للتخلص من الحالة المُستنقعية التي يعانيها الاجتماع السياسي في منطقتنا والدخول في سيرورة مدنية وتصارعية سلمية تنتقل بالمجتمعات والبلدان إلى الأمام، وعن طريق الدمقرطة وليس الدم والإقصاء. لكن القوى التي وجدت نفسها في قلب الصراع، سواء أكانت إسلامية أم ليبرالية أم قومية، ومع اختلافها في كل شيء كانت تلتقي كلها على ثقافة إقصائية تحتقر التعددية عملياً وموضوعياً، وتضيق ذرعاً بالتعايش مع الخصم السياسي، وفهمها للديمقراطية هش وبدائي إلى أبعد حد. لم تكن هذه مفاجأة كبيرة، ذلك أن هذه القوى هي الأخرى من مخلفات ونواتج حالة الاستنقاع الطويل التي أورثت فكراً معوقاً وسياسة معوقة في الحكم والمعارضة على حد سواء. والفرصة التاريخية التي لاحت في تونس ومصر وليبيا واليمن، يتم هدرها الآن بشكل مريع وتتحالف القوى المتصارعة في الإجهاز عليها، تتحكم فيها جميعاً مراهقة سياسية وغرائزية بدائية أكثر من أي شيء آخر.
في مصر تم تفويت الفرصة التاريخية لجهة المضي بصبر وتحقيق إنجاز تدريجي وتراكمي في مسار إبعاد الدين عن السياسة، وإبقاء الجيش بعيداً عنها أيضاً. فخلال عام واحد فقط خسر الإسلام السياسي في مصر وفي المنطقة ومن خلال الفشل في الحكم ما كان قد راكمه من رأسمال سياسي وشعبية انتخابية. كل الشعارات الإسلاموية وُضعت على محك الاختبار والقدرة على التنفيذ أمام الشعوب والناخبين الذين كانت تجذبهم الوعود الخلاصية في برامج الإسلاميين. لم يكن بإمكان أية قوة سياسية منافسة، أو أمنية قامعة، أو عسكرية مسيطرة، تحقيق الخسارات المتلاحقة والمدهشة التي تجمعت في رصيد الإسلاميين خلال سنة واحدة من وجودهم في الحكم. أهم ما كانت تنجلي عنه تلك السيرورة هو انكشاف الشعاراتية الإسلاموية أمام الناس والناخبين، والتحييد المتسارع لفكرة خلط الدين مع السياسة في وجدانهم، ودفعهم للحكم على أي حزب، بما فيها الأحزاب الإسلامية، من منطلق الأداء والكفاءة وليس من منطلق العاطفة الدينية. لم يكن بالإمكان الوصول إلى ملايين الناس وإقناعهم بالفكر والتنظير بضرر استخدام الدين في السياسة، حيث يتشوه الدين وتتعوق السياسة. لكن وجود «الإخوان» في سدة الحكم وتسيّس السلفيين، حقق على مستوى كشف الدمار الذي يحمله خلط الدين بالسياسة ما لم تحققه مئات الكتب التي أصدرها كبار المنظرين والمفكرين في المنطقة. هذا الإنجاز الديمقراطي الليبرالي الكبير الذي حققه وجود «الإخوان» في الحكم دمّره الليبراليون أنفسهم عبر استعجالهم قطف النتيجة!
صعود الإسلاميين الوئيد والطويل خلال ثمانية عقود ماضية تأسس على عدة أسباب؛ منها البناء على فشل الأفكار السياسية والأيديولوجيات الأخرى التي وصلت للحكم، أي الوعد بأن ليس هناك من طريق أو حل إلا عبر تسلم الحركات الإسلامية الحكم، وهو ما كان يترجم شعاراتياً إلى «الإسلام هو الحل». علاوة على زخم «المظلومية التاريخية»، وهالة التضحية والبطولة التي تخرج من رحمها أجيال عديدة من الإسلاميين الجاهزين للموت في أي مكان من أجل اعتقاد «يقيني» بـ«الفكرة التي تحالفت ضدها كل قوى الكفر العالمي». زرعت البذور الأولى لتلك المظلومية في التجربة المريرة التي خاضها «الإخوان» ضد حكم عبد الناصر وما تعرضوا له من اضطهاد وتعذيب في سجونه. ثم تكررت صور من تلك المظلومية في أكثر من بلد عربي على وقع الاستبداد والقمع الذي كان يطال الجميع.
في سنة أولى حكم، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، توفرت الفرصة الذهبية لشعوب هذه البلدان لإنهاء مفاعيل العناصر والأسباب الكبرى التي عززت قوة الإسلاميين في المنطقة. صار بالإمكان اختبار الشعار والذي يستثمر مشاعر الناس وعواطفهم الدينية. وصار بالإمكان تحييد مسألة «المظلومية التاريخية» لأن الإسلاميين أصبحوا في قلب إدارة الحكم ولم يعد يُلحق بهم أي ظلم، بل صاروا في مكان «الظلمة» في أكثر من حادثة وسياسة. وصار بالإمكان تحييد مسألة استثمار الشعارات المعادية لإسرائيل وللغرب والتلاعب بعواطف الناس أيضاً في هذا الموضوع، لأن إسلاميي الحكم في مصر وتونس وليبيا معاً أدركوا تعقيدات المعادلات الإقليمية والدولية وتواضعت همتهم «النضالية» ضد الغرب خاصة مع حاجتهم إليه هنا وهناك، وبالتالي أُبطل المفعول التعبوي للخطاب النضالي ضد الغرب.
ما كانت تحتاجه مصر والعالم العربي هو أن يستمر الانكشاف الإسلاموي على مرأى الناس والناخبين الذين هم من يقرر، لا الجيش، أن حكم «الإخوان» يجب أن يُستبدل وأن يتم ذلك ديمقراطياً وانتخابياً. تلك هي السيرورة، التي بطؤها قد يستفز الأعصاب ومخاطرها لا يُستهان بها، لكنها الوحيدة التي كانت تؤسس لمستقبل ديمقراطي حقيقي لمصر. بيد أن استعجال القوى المدنية والديمقراطية واستنجادها بالجيش أجهض تلك السيرورة وأعاد بضربة واحدة فقط إلى قلب السياسة اثنين من ألد أعدائها: الجيش والتوظيف الديني لها.
الجيش لا يقوم على بنية ديمقراطية، بل على تراتبية صارمة تقوم على قاعدة «نفذ ثم ناقش». وليس من المُستبعد أن ينفد قريباً صبر الجيش على فوضى الشارع وصبيانية ومراهقة السياسيين، بعد انفلات الميادين في مصر ويعلن آجلا أم عاجلا حالة الطوارئ ويحكم مباشرة مُقاداً بمنطق تحقيق الأمن والاستقرار. أما «الإخوان»، ومعهم الأحزاب السلفية، والذين كانت سياستهم وشعبيتهم في انحدار متواصل، فقد جاءت الرياح في صالحهم على المدى الطويل، وإن كانت خسارتهم كبيرة على المدى القصير. لقد خدمتهم نزعة الانتقام والغرائزية وقصر النظر الذي استبد بالقوى الليبرالية واستعجالها إنهاء حكم «الإخوان»، حيث أعادت خطوة إسقاطهم عبر الاستعانة بالجيش الحياة لعناصر الشعبية والقوة التي اعتاش عليها «الإخوان» عقوداً من الزمن. سوف يقول الإسلاميون من الآن فصاعداً بأنهم لم يُمنحوا الفرصة الكاملة كي يطبقوا برنامجهم، مبقين على مفعول شعاراتهم في أوساط الناخبين. وسوف يعيدون تشغيل آلية «المظلومية التاريخية» على أساس جديد هذه المرة وهو أن كل القوى، محلياً وعالمياً، تحالفت مع الجيش لإزاحتهم وسرقة حكمهم الشرعي والمنتخب. وسوف يعيدون بث الحياة في خطاب عداء الغرب لهم بدليل مساندته للجيش في مصر، وبذلك نعود إلى ما قبل المربع الأول. هذا كله من دون أن نتحدث عن سيناريو تسعير الجنون الإسلاموي الذي يفرك يديه فرحاً الآن بانفتاح «جبهة الجهاد في مصر». والفضل الكبير في إعادة شحن طاقة التيار الإسلامي في المنطقة، وفي تحقيق هذه العودة الارتدادية، يعود إلى قصر نظر القوى الليبرالية واستعجالها غير المبرر وانقيادها للشارع بدل أن تقوده.

1