تم تدليع الانتفاضات العربية، بمنحها اسم: ثورات الربيع العربي، ولكننا بعد سنتين لم نر ربيعا، فلا أرض خضراء، ولا براعم على الأشجار، ولا خصب في بلاد العرب التي تفجرت فيها (الانتفاضات) و..جرت فيها
(انتخابات).
سميناها (ثورات) تفاؤلاً واستبشارا ورهانا على تطور( الانتفاضات)، وتحولها إلى ثورات حقيقية، تكتسح كل ما تسببت به أنظمة الاستبداد، والتفرد بالحكم والتبعية، وتؤسس لأنظمة حكم ثورية، تجسد أشواق وتطلعات من انتفضوا وارتقوا بالانتفاضات إلى مرحلة الثورات الجذرية، التي ترسي دعائم نظم حكم عادلة اجتماعيا، تمنح الإنسان العربي مواطنة حقيقية، وحرية طالما انتظرها، لا يستفرد بها طرف واحد يعيد إنتاج دورة الاستبداد والظلم والتبعية.
الأنظمة التي جاءت إثر انتفاضتي تونس ومصر، قدمت حتى اللحظة نموذجين لم يلبيا تطلعات الجماهير الشعبية التي انتفضت، واكتسحت نظامي بن علي ومبارك.
أُسقط بن علي، ومبارك، ولكن خراب نظامي حكمهما ما زال على حاله، والأنكى أن من تربعوا على سدة الحكم لم يغيروا شيئا، بل إن الأحوال الاقتصادية تزداد سوءا، وحالة الأمن تتردى، وهذا سببه الاستفراد بالحكم، واستبعاد كل القوى السياسية، ومن قاموا بالانتفاضات، وكانوا وقودها في الميادين، وقدموا الشهداء والجرحى: الشباب رواد الانتفاضات العربية، الذين انفجروا، بعد أن رأوا أن طريقهم إلى المستقبل مغلق تماما، وأنهم غرباء في أوطان يتحكم بها حفنة من اللصوص الفاسدين.
تسمية الانتفاضات بثورات الربيع العربي، كانت قفزة عن فصل الشتاء، وفي الفصول لا يمكن لفصل أن يسبق فصلاً، فإن حدث واختل هذا الأمر، فإن النتائج تكون البوار والخسارة وضياع الجهد.
لا يمكن أن يكون الشتاء شتاء بلا مطر، والصيف صيفا بلا حرارة، والربيع ربيعا بدون أمطار الشتاء التي تنبت البذور وتنضجها وتساعدها على النمو، والانبثاق من رحم التربة التي حرثها الفلاح جيدا.
كيف يمكن أن يأتي الربيع، في حين أننا لم نهيئ أرضنا في الشتاء، بالحرث والبذر، ونعنى بموسمنا بالتعشيب، لتخليصه من نباتات ضارة تمتص خصب التربة، وتحرم الزرع الحقيقي منها وتخسر الفلاح جهده؟
وماذا إذا ما هاجم حقولنا الجراد، وقد فعل، فغطى بأسرابه سماءنا، وحجب شمسنا، فرأينا برنار هنري ليفي يقفز على ليبيا مفترسا، وينصب نفسه قائدا موجها (لثوار) ليبيا، ويأخذ منصب رئيس الجيوش على الأرض موجها للطائرات المغيرة والصواريخ المدمرة، وحاملاً للرسائل من (الثوار) إلى قادة الكيان الصهيوني، مطمئنا وواعدا بعلاقات صداقة، أين منها كامب ديفيد السادات؟
انتفاضات سرقت مبكرا، وحرفت عن مسارها، واستغفلت جماهيرها، سميت بالربيع العربي، لزراعة الوهم في النفوس والعقول، بمواسم خصبة، وقبل أن يرتفع ما زرعه دم شباب العرب، ويشتد تحت الشمس، وينضج بحرارة مناسبة، تقوى مع بداية فصل الصيف، فيكون الحصاد.. ثم الأعراس على بيادر الصيف، بهجة بما جنيناه، واستعدادا لاستئناف دورة الخصب والحياة، بشكل طبيعي، في فصول يؤدي واحدها للآخر، فالفصول مثل الثورات، مقدمات تؤدي إلى نتائج، ونتائج لا تتحقق إلا بالعمل في أرض لا بد أن تُخدم جيدا، فالبذار لا ينمو في أرض غير محروثة، وإن نمت حبات قليلة، فهي لن تكون حقولا ووعودا بالخصب وموارس قمح وزادا يديم حياة الناس.
نحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وبعد انتفاضات وصفت بأنها ثورات الربيع العربي، ومع ذلك فهذا الربيع الكاذب، يأخذ أقطارنا العربية التي انتفضت إلى تقسم وتمزيق البلدان والمجتمعات، فكيف يحدث أن نتائج (ثورات) ربيع عربي، تكون سببا في تقسيم أقطار عربية إلى مزيد من القطرنة والتجزئة؟!
حدث هذا من قبل حين هب بعض العرب ضد حكم العثمانيين، برعاية بريطانيا، وبتأمير الضابط الجاسوس لورنس العرب، فمن وعدوا الشريف حسين بدولة عربية تكون إمبراطورية ترث إمبراطورية بني عثمان، كانوا يقتسمون بلاد العرب، تركة الرجل المريض (تركيا)، في غفلة من قادة ثورة العرب تلك.
روسيا البلشفية، بقيادة لينين، فضحت اتفاقية سايكس بيكو، بين بريطانيا وفرنسا، التي يتم تقاسم المشرق العربي بموجبها، وتمكن بريطانيا من وضع يدها على فلسطين، تمهيدا لجعلها وطنا لليهود.
بعد قرن من الزمن على تقسيم المشرق إلى دويلات، يعود من تقاسموا بلادنا، وزرعوا الكيان الصهيوني في فلسطين، لتقسيم المقسم إلى دويلات أكثر صغرا وتفاهة وفشلاً من الدول السابقة.
أعداء الأمة الدائمون، بريطانيا، فرنسا وأمريكا الوارثة للاستعماريين القدامى، لا يريدون للعرب أن يتحدوا، ولذا يزيدونهم تمزيقا، ويزرعون بينهم الفتن، ويلهونهم في صراعات داخلية تستنفد طاقاتهم وتدمر علاقاتهم.
كيف يمكن أن نثق بحرص أمريكا، بريطانيا، فرنسا والغرب الاستعماري العنصري، على نشر الديمقراطية في وطننا العربي؟
خُدع أباؤنا وأجدادنا من قبل، فكيف نُخدع نحن من جديد، مع اننا يفترض أن نكون قد وعينا درس تقسيم بلادنا، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين؟!
سرقت الانتفاضات، من قوى داخلية ضيقة الأفق، بتشجيع خارجي، هدفه تيئيس العرب وأجيالهم الشابة بالخداع والتضليل واستنفاد الطاقات في صراعات داخلية، خاصة مع بروز جهة بعينها همها الهيمنة على السلطات، وليس بناء دول قوية، والطموح لبناء دولة عربية واحدة، تسخر الثروات في بلاد العرب للبناء والنهوض واللحاق بالأمم.
هل هذا هو وعد ثورات الربيع العربي؟
لا، فالربيع لم يأت بعد، لأنه سيكون ربيعا لتأسيس أنظمة حكم لا تتسيد عليها جهة واحدة، تفرض على المجتمعات العربية قسرا، وقهرا، وابتزازا، وتضليلاً..سلطات تستغل الدين وتسيسه، تجر إلى صراعات مدمرة تعيق سعي وتطلع شعوب العرب لتأسيس مشروعها النهضوي للخروج من حالة التبعية والتخلف والفرقة التي زرعها سايكس ـ بيكو.
إلى أين ستؤول الانتفاضات؟ إلى ثورات تتجدد، أم إلى هيمنة تيار إسلاموي يزيد بلاد العرب تمزيقا وتبعية وتخلفا؟
انتفاضات العرب بدون الخروج من ضـــــيق أفق الإقليميات، والتفريق بين العدو والصديق، ورفع راية فلسطين العربية، واتخاذ مواقف من أعدائها، فإنها بانتهازية قيادات تطفو صدفة على السطح، ستؤخذ لتوظف في خدمة أعداء الأمة، وستنتهي قبل أن تتحول إلى ثورات حقيقية، تمتد عبر الأقطار العربية، لتشكل ثورة عربية واحدة شاملة.
دهمتنا العاصفة الشتوية الماطرة الثلجية المزمجرة، القادمة من روسيا، كأنما تذكرنا بان ربيعنا لم يأت بعد، فنحن لم نُعد أرضنا بالحرث، وانتقاء البذور المعافاة، وزرعها في الوقت المناسب، وتخليص الأرض من الأعشاب الضارة، والعناية بالزرع النابت المعافى حتى النضج، ليتكلل كل هذا الجهد بالحصاد الذي يتوج موسما خططنا له جيدا، وخدمناه جيدا، وحرسناه واعتنينا به جيدا.
يقتضي شتاء الغضب العربي من شباب الأمة، وثوارها الحقيقيين، أن يواصلوا ثوراتهم، دون الركون إلى أكاذيب الغرب الاستعماري وتسمياته، ووعوده الكاذبة، والتذكر باستمرار أنه عدو أمتنا التاريخي، منذ سايكس بيكو، وحتى يومنا هذا.. من لورنس الإنكليزي إلى برنار هنري ليفي الصهيوني.
شتاء الغضب العربي!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 16.01.2013