العنف الممارس ضد المرأة لم يعد من المواضيع المسكوت عنها لكن درجة الحساسية والحرج منه لدى الضحايا ما تزال مرتفعة خاصة في المجتمعات العربية حيث تجد المرأة نفسها متكتمة على ما تعرضت له إما مجبرة أو لأسباب نفسية. ويزداد منسوب السرية عندها إذا تعرضت لعنف الزوج وخاصة للعنف الجنسي. إلا أن الصمت في هذه الحالات يؤدي إلى نتائج عكسية ويشجع ممارس العنف على مواصلة ممارساته دون توجس من عواقبها، هذا ما لا تعيه النساء اللاتي يتعاملن مع العنف بالكتمان.
باريس - تعرّف منظمة الأمم المتحدة العنف الممارس ضد المرأة بأنه: “أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية البدنية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”. هذه الأشكال من العنف وغيرها التي تستهدف النساء ما تزال مستشرية في جميع أنحاء العالم، وحسب آخر إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن حوالي ثلث النساء في العالم أي ما نسبته 30 بالمئة ممن عشن مع أزواج لهن تعرضن لعنف جسدي أو جنسي من جانب شركائهن.
وأوضحت كلوديا غارسيا مورينو المسؤولة في منظمة الصحة العالمية المكلفة بشؤون البحوث بشأن العنف ضد النساء، أن هذا الرقم يصل إلى 35 بالمئة إذا ما جرى الأخذ في الاعتبار الاعتداءات الممارسة على النساء من غير أزواجهن. وتتفاوت معدلات العنف حسب المناطق والدول ولعل أعلاها تهم الدول العربية والدول النامية.
كما أن 38 بالمئة من جرائم القتل في حق النساء في العالم مرتكبة من جانب الزوج. وتتعرض امرأة من كل ثلاث نساء في العالم للعنف خصوصا من الزوج، حسب ما أشار إليه أخصائيون خلال مؤتمر في العاصمة الفرنسية باريس بشأن “العنف والجنس حيث أكدت وزيرة الصحة الفرنسية في مداخلتها أن “أعمال العنف الممارسة ضد النساء والأطفال وبشكل خاص على الفتيات الصغيرات ليست كغيرها من أعمال العنف”، وأن هذه الممارسات “يجمعها هدف واحد ونتيجة واحدة وهي إعادة إنتاج مكامن التمييز بين النساء والرجال جيلا بعد جيل والإبقاء على خضوع المرأة والهيمنة الذكورية”.
وأفادت منظمة الصحة العالمية أن أعمال العنف “تؤججها النزاعات والأزمات الإنسانية” التي كان لها تداعيات مأساوية على الصحة العقلية والجسدية للضحايا.
لا توجد عصا سحرية لدحر العنف ضد النساء، لكن هناك أدلة بأن التغييرات في العقلية والسلوك ممكنة، وبالإمكان تحقيقها في غضون أقل من جيل هذا ما صرحت به شارلوت واتس، الأستاذة في معهد النظافة والطب المداري، في لندن. وفي هذا التصريح خلاصة للعديد من التوصيات أطلقتها منظمات دولية وجمعيات مدنية خاصة في الدول العربية التي يستشري فيها العنف الممارس ضد المرأة بجميع أنواعه.
ولم يعد أمرا خفيا ما تعانيه النساء في المجتمعات العربية من عنف يمارس عليها إما في نطاق الأسرة وفي أغلب الحالات من الزوج وأحيانا من الأب أو الأخ ومن أفراد المجتمع. بالإضافة إلى أن أوضاع المجتمعات العربية التي تعيش صراعات ونزاعات مسلحة مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن وغيرها من دول ما أطلق عليه “الربيع العربي” مثل تونس ومصر عمقت معاناة المرأة من العنف.
وبات العنف يستهدف المرأة أكثر من غيرها بصعود تيارات الإسلام السياسي وبتنامي التطرف والتشدد الديني أصبح للرجل مبررات أكثر، تعلّق على شماعة الشريعة والدين، تتيح له أريحية أكثر في ممارسة سلطته على المرأة بممارسة العنف لكن هذا لا يشمل كل ممارسي العنف بل يتصل فقط بمن يتقبلون التفكير الديني المتطرف الذي يقدم لهم صورة مفادها أن الشريعة الإسلامية ترخص لهم ضرب وتعنيف زوجاتهم فتسوغه لنفوسهم على أنه ممارسة شرعية.
كما لا يبدو استضعاف المرأة في هذه المجتمعات جديدا بل إنه قديم متجدد يتراوح بين الشدة والضعف وفق السياق السياسي والاجتماعي في كل دولة. ورغم ما تدعيه الحكومات العربية من تقدم في مجال تحقيق المساواة بين الجنسين وتحقيق العدالة الاجتماعية من حيث تضمين حقوق المرأة في دساتيرها وتشريعاتها إلا أن الأرقام والإحصائيات تقدم صورة جد قاتمة حول أعداد النساء ضحايا العنف المادي واللامادي. ورغم ما حققته هذه الدول من تقدم في مجال التعليم والانفتاح على الغرب إلا أنها لم تتخلص من هذا الفكر الذي يرى في المرأة كائنا ضعيفا ليس أمامه إلا أن يرضخ لما تسطره له السلطة الذكورية.
وبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه الاضطرابات الأمنية والنزاعات المسلحة والتطرف والمجتمع الذكوري في تقاليده تجاه المرأة في ارتفاع نسب العنف الذي يسلط على المرأة يتفاقم الوضع بسبب نقص الوعي لدى جميع مكونات المجتمع عموما والمرأة خصوصا بانعكاسات هذا العنف على الضحية وعلى عائلتها وأبنائها وعلى مستقبل المجتمع ككل إلى جانب انعكاساته على اقتصاد الدولة لما يكلفه من تغطية صحية وغيرها من مصاريف لجبر الأضرار.
نقص الوعي أو غيابه أحيانا بخطورة تعنيف المرأة يدفع ممارسيه إلى التمادي لأن أغلب النساء العربيات المعنفات خاصة من قبل الزوج يجبرن أو يخترن الصمت وعدم الإفصاح على ما تلقينه من إهانة معنوية ومادية. هذا الصمت يتحول إلى حرص على حفظ السر إذا تعلق الأمر بعنف جنسي وذلك لاعتبارات كثيرة ومعقدة منها المراعاة أو الخوف من بقية أفراد العائلة وتجنب الفضيحة وخشية نظرة المجتمع لهن ولعائلتهن. وأحيانا التظاهر بالسعادة مع الزوج لإخفاء الحقيقة يكون الحل لترى المرأة نفسها في الصورة المرموقة التي تريد أن ينظر لها بها محيطها.
المرأة التي تواجه العنف بالصمت لا تعي أنها بهذا السلوك السلبي لا تجني على نفسها فقط بل إنها تجني أولا على أبنائها الذكور الذين تخلق لديهم الحياة في بيئة من العنف ورؤية أمّهم تعنف من الأب حتى لفظيا تجعلهم يكررون نفس السلوكيات في المستقبل وهو ما أثبتته العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية. كما تجني أكثر على بناتها اللاتي يختزنّ تفاعل الأم مع العنف ويصبحن في المستقبل قادرات على تقبل العنف والتعايش معه كأمر عادي وتتسم ردود فعلهن بالخضوع والصمت في محاولة للاقتداء بأمهاتهن وهذا أيضا مثبت علميا.
صمت المرأة وردة فعلها السلبية لا تضر فقط حياة الأسرة والمجتمع الراهن بل تمتد لصنع أجيال تكرر نفس السلوكيات وتنتج مجتمعات مختلة من حيث المساواة بين الجنسين وهو ما لا يفضي إلى تنمية مستدامة ولا يرتقي لا بالفرد ولا بالمجموعة.
لأجل ذلك يظل الحل الجذري قائما على تغيير العقليات بالعمل على نشر الوعي والتحسيس بانعكاسات العنف السلبية بجانب سنّ تشريعات ووضع سياسات تمكّن من التصدي للتمييز الممارس ضد المرأة ومن ردع العنف وتجريمه، وبدعم التعليم والتوعية حتى لا تنتج أجيال المستقبل معايير التمييز ضد المرأة واستضعافها وتتقبل ممارسة الرجل للعنف على أنه ممارسة لسلطته الشرعية.
العنف ضد المرأة يعيد إنتاج مكامن التمييز بين النساء والرجال !!
بقلم : الديار ... 13.09.2015