لو استثنينا بعض العرب الذين مازالوا يتاجرون بالشعب الفلسطيني حتى هذه اللحظة، ويستغلون كارثة غزة وشعبها الآن للبيع والشراء واللهط والشفط، لوجدنا أن الغالبية العظمى من الأنظمة المسماة عربية هي أكبر الخاسرين من الحرب، لأنها ظهرت أمام العالم وأمام شعوبها بلا حول ولا قوة، وغير قادرة أن تساهم بأي طريقة في الانخراط في الصراع الدائر اليوم في غزة بين الفلسطينيين وإسرائيل، فما بالك أن تستفيد منه وتجيره لصالحها وصالح الفلسطينيين بطريقة ما.
وقد شاهدنا أن أكثر من سبع وخمسين دولة عربية وإسلامية اجتمعت ولم تكن قادرة بعد ذلك على إدخال قارورة ماء أو حليب إلى الشعب المنكوب داخل غزة. ولا شك أن ذلك يشكل هزيمة وخسارة كبرى لمعظم الأنظمة العربية والإسلامية، حتى لو كانت مصلحتها وهدفها ينسجمان تماماً مع أمريكا وإسرائيل، ويتعارضان مع الطرف الفلسطيني. ويقول جو ولش عضو مجلس النواب الأمريكي السابق تعليقاً على موقف الحكام العرب من حرب إسرائيل على غزة: «السر البسيط القذر في الشرق الأوسط الآن هو أن أغلب العالم العربي يريد انتهاء حركة حماس، ولا يكترث بالمرة بالشعب الفلسطيني لا اليوم ولا من قبل. وبالتالي، فكثير منهم مرة أخرى اليوم يتوسل إلى إسرائيل في الخفاء بأن تقوم بالمهمة القذرة بدلاً منهم. جبناء!» ولو لم تكن القضية الفلسطينية تتمتع بقدسية وحساسية معينة، لربما شارك بعض العرب بشكل علني في الحرب على غزة، ولما اضطر عضو مجلس النواب الأمريكي أعلاه أن يتهمهم بالجبن. ولا ندري أصلاً إذا كانت بعض الأطراف العربية تشارك من وراء الستار إلى جانب الإسرائيليين ضد غزة بوسائل مختلفة. بعبارة أخرى، فإن العديد من الأطراف العربية بسبب انضوائها تحت العباءة الأمريكية الإسرائيلية وربط مصالحها بالجانبين الأمريكي والإسرائيلي، تعتبر أن هزيمة غزة انتصار لها بشهادة المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، وهو ما يمكن تسميته فعلياً بالسفاهة إن لم نقل السفالة السياسية المبتذلة.
كان الإيرانيون يجتمعون مع الأمريكيين في أكثر من عاصمة عربية للاستمرار في التباحث حول التوصل إلى اتفاق نووي جديد وتفاهمات تاريخية على دورهم القادم في الشرق الأوسط
لكن بينما غسل العديد من العرب أيديهم من القضية الفلسطينية ووضعوا كل بيضهم في السلة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة دون جني أي فائدة غير الخزي والعار والشنار، فإن إيران تتعامل مع الحرب بطريقتها (البازارية) المعتادة، وهي، على عكس العرب، قد دخلت سوق المساومات والسمسرة والصفقات مع الأمريكيين كي تحقق مكاسب كثيرة. وقد لاحظنا منذ بداية الحرب أن أكثر ما يهم الأمريكيين والإسرائيليين تحييد الأذرع الإيرانية عن الصراع، وكانت الإدارة الأمريكية في كل مرة يأتي فيها الحديث عن مشاركة إيران في المعركة، كانت واشنطن تبرئ الجانب الإيراني وتعمل جاهدة على إبقائه خارج المعادلة. لكن إيران تعرف كيف تستغل مثل هذه المناسبات الهامة كالحروب كي تستفيد منها قدر المستطاع، وذلك على عكس الأطراف العربية التي سلمت كل أوراقها للأمريكي والإسرائيلي منذ البداية. وهنا يأتي استغلال قوة الميليشيات الإيرانية في لبنان وسوريا والعراق واليمن والتلويح بها في وجه الأمريكيين والإسرائيليين.
وهنا تقول طهران للأمريكي، أنت تعلم أننا قادرون على تحريك أذرعنا في لبنان بشكل فعال ضد إسرائيل لو أردنا، وبإمكاننا أيضاً أن نستغل الأراضي السورية ضد إسرائيل. ولا تنس الحوثيين في اليمن ومشاغباتهم. وقد لاحظنا كيف فرملت إيران حزب الله في لبنان وحصرت مشاركته في الحرب بحدها الأدنى.
وقد شاهدنا كيف دفعت إيران بآلاف المقاتلين من الحشد الشعبي العراقي الموالي لها إلى الحدود الأردنية في منطقة طرابيل لتهدد بهم الإسرائيليين، وهي بالطبع ليست محاولة جادة لدخول الحرب لمساعدة الفلسطينيين والتخفيف عنهم وطأة الوحشية الإسرائيلية، بقدر ما هي عملية ابتزاز إيرانية للأمريكيين للحصول على تنازلات ومكاسب سياسية ومالية، وقد نجح الإيرانيون فعلاً في هذا المجال، بدليل أنهم حصلوا في عز الحرب الإسرائيلية على غزة على عشرة مليارات دولار كانت مجمدة وأفرجت عنها أمريكا. ولم يتردد البعض في اتهام إيران بأنها تخلت عن حلفاءها في حماس بمبلغ دسم ليس من وراء الستار، بل علناً، ولا ندري ما هي الأثمان الأخرى التي سيحصل عليها الإيرانيون لاحقاً مقابل استغلال بعبع الميليشيات والتهديد بإشراكها في الحرب لو لم تحصل على المقابل المالي والسياسي. ولا ننسى أيضاَ أنه في خضم الحرب على غزة، كان الإيرانيون يجتمعون مع الأمريكيين في أكثر من عاصمة عربية للاستمرار في التباحث حول التوصل إلى اتفاق نووي جديد وتفاهمات تاريخية على دورهم القادم في الشرق الأوسط.
ولو بقيت الميليشيات الإيرانية في المنطقة بعيدة عن ساحة القتال، والتزمت إيران بلعبة البازار والسمسرة مع الغرب، لا شك أنها ستربح كثيراً من مأساة غزة التي باعها العرب برخص التراب.
غزة بين الرداءة العربية والمزايدة الإيرانية!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 09.12.2023