اللُّغة كائنٌ حيٌ، وهي قادرة على بث الفرح أو الحزن أو الغضب وعلى التهدئة.
ممكن للكلمات أن تنعكس على الجسد، همسة واحدة قد تثير غرائز نائمة، وقد تثير ضيقاً وحساسيَّة جلدية لدى البعض، أو تجعل العين تدمع ويتعرّق البعض خجلاً من حرفين، هناك هرمونات ومركّبات في الجسد وحتى عضلات تحركها الحروف، فهي ليست أصواتاً عابرة تضيع في الفضاء، الكلمة تعكس واقعاً مادياً فتجعله قريباً من الحواس الخمس وأكثر.
قد تتعهَّر الكلمات وتؤدي إلى ارتباك معوي عند دسّها في غير موضعها، وقد يكون لها مفعولُ مُخدِّر السَّعادة للملايين، مثلاً لغة المرحوم محمد سعيد الصَّحاف خلال عدوان «العُلوج» الأمريكيين على العراق.
تشعر بقرف كأنك شممت رائحة كريهة عندما تسمع الرئيس الأمريكي جو بايدن يعرب عن قلقه من تقارير تتحدث عن «اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية على الفلسطينيين في الأماكن التي يحقُّ لهم الوجود فيها»! هذا الخطاب يُعبّر عن موقف إنساني متقدِّم، لإنسان يعيش منعزلاً في غابة يغطي سوأته بأغصان الشجر، ولم يعرف عن الحضارة البشرية شيئاً، لا تربطه أي وسيلة اتصال مع العالم الخارجي، وحتى إذا سمع فهو لا يفهم الأبجدية بعد، وما زال يتحدث بالإشارات، جو بايدن يقصد القول إنه يوجد مناطق في الضفة الغربية يُسمح للفلسطينيين أن يكونوا فيها، ورغم ذلك يهاجمهم المستوطنون الذين يحق لهم أن يكونوا في كل مكان ولكن دون اعتداءات على الفلسطينيين، بايدن بهذا يوهم المواطن الأمريكي والأوروبي وكثيرين في العالم بأنَّه معارضٌ للظّلم، بل ويناصر المظلومين، فلا أحد يؤيد قتل الفلسطيني وهو يقطف ثمار زيتونته، ولكن إلى جانب هذه الدُّرر يصدر البيت الأبيض بياناً يرفض فيه وقف إطلاق النار في قطاع غزة لأنّ حماس قد تستفيد منه، وكأن البيت الأبيض ليس له علم بجرائم الحرب الجارية على مدار السَّاعة، أو أن تلك مسموح بها لأن الهدف منها إنهاء حماس، وبكلماته «البريئة» هذه يريد القول للسُّلطة الفلسطينية في رام الله «أنا مش ناسيكم واعرفوا شغلكم، والدليل أنني قلت بأننا بعد الحرب يجب أن نعود إلى حل الدولتين».
عندما يُعلن رئيس مصر عبد الفتاح السيسي أنَّه على الفلسطينيين أن يبقوا في بيوتهم، لأنه ضد فكرة التهجير، وهو موقف قومي ووطني وإنساني، لكن وكي لا يُفهم خطأ بأنه مناصر للمقاومة في قطاع غزة -لا سمح الله- فإنَّه يعلن أمام المستشار الألماني أولف شولتز الذي بدت الدهشة على ملامحه وهو يسمعه يقول «إذا كانت هناك فكرة للتهجير توجد صحراء النقب في إسرائيل، ممكن أوي نقل الفلسطينيين إلى هناك حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المُعلنة في تصفية المقاومة -يستدرك- أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيرها، ثم بعد كِدَه تُرجعهم إلى القطاع إذا شاءت-انتبهوا إلى عبارة إذا شاءت- لكنَّ نقلهم إلى مصر، العملية دي ممكن تستمر سنوات إلخ! إلى أن يصل باستنتاج أن نقلهم إلى مصر سيؤدي إلى أن يقوموا بأعمال إرهابية ضد إسرائيل، يعني حتى بعد طردهم إلى سيناء لم يذكر أنهم قد يقومون بأعمال مقاومة، بل بإرهاب ضد إسرائيل.
الموقف الأول جعل المصريين يقدرونه، وحتى رئيس حركة حماس إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قدَّر هذا الموقف، لكن في ما يتعلق في المجزرة المستمرة في كل دقيقة اكتفى الرئيس المصري بتصريحات هلامية على شاكلة «هذا يتعارض مع القانون الدولي»، ممكن لطالب ثانوي في إنكلترا أن يتخذ مثل هذا الموقف، وليس لرئيس أكبر دولة عربية بإمكانه ولديه أوراق ضغط كبيرة وأن يعمل الكثير دبلوماسياً لوقف هذه الجرائم بحق أهالي غزَّة.
عندما يُعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أنَّ مصر لن تسمح لأحد أن يمس حبّة رمل من سيناء، فهذا موقف عظيم وحازم، لكنه يستنكر في غاية اللطف والدبلوماسية ما يجري على بعد مئات الأمتار حيث يُقتل المدنيون بالآلاف ويتجمع مئات الآلاف في المستشفيات والمدارس ومهدّدون بالقصف، بل ويجري قصفهم رغم قرار هيئة الأمم المتحدة بوقف الحرب لفتح طرق إنسانية.
هنالك جهات عربية عديدة أعلنت أنها بحثت في اتصالات هاتفية أو وجاهة مع مسؤولين غربيين، واتفقوا للعمل على عدم توسيع دائرة الصراع! في الواقع، يُطلب من هذا أن تبقى غزة وسكان غزة وحيدين في مواجهة أعتى قوى الإجرام في العالم، ثم يطلبون على حياء تجنَّب قتل المدنيين والعقوبات الجماعية، وكأن القتل الجماعي لم يحصل بعد.
حتى شيخ الأزهر لم يسلم من اتهامه على لسان معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل من دعم حماس، بينما كان ردّ المسكين على مجزرة جباليا بديباجة إنشائية دعا في آخرها مسلمي العالم أن لا ينسوا الدعاء لهزيمة الأحزاب».
يركِّز قادة الاحتلال على الادعاء بأن حماس-داعش تستخدم المدنيين دروعاً بشرية، فأنت في قطاع غزّة عليك أن ترحل من بيتِك، وإلا فقد اخترت أن تكون درعاً بشرية لحماس وهكذا تضطرنا لأن نلقي عليك أطناناً من المتفجرات، أما من نزحوا إلى ساحة مستشفى فهم أيضاً درع بشريَّة لقيادة وأنفاق حماس؛ ويصبح قتل مئات الأطفال والنساء مشروعاً.
العبارة التي احتلت موقعاً متقدِّماً من بين جميع العبارات في هذه الجولة هي عبارة الملثَّم أبو عبيدة الموجهة إلى القادة العرب «نحن لا ندعوكم لتحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله».
«لا سمح الله» هذه حملت أوجهاً عديدة! وأسهب بعضهم في تفسيرها على وسائل التواصل.
فهي أوَّلاً وقبل كل شيء تبدو أننا لا نطلب منكم هذا كي لا تتضرّروا، وتعني أننا لا نحملكم فوق طاقتكم، وتفسَّر أيضاً بأنّنا نتفهم عجزكم وبأن أسيادكم لن يسمحوا لكم بذلك! كذلك نعرف أن هذه الجيوش ليست معدّة للحروب، إلا لمواجهة الأشقاء وقمع الشعوب!
ودعونا من جيوشكم النظامية التي تُصرف عليها مليارات الدولارات، حتى صرتم أكبر مستوردين للسلاح على مستوى العالم، وبدلاً من إهراق هذه الأموال وجّهوها إلى رفاهية شعوبكم وخصوصاً الفقيرة منها.
نتنياهو من جانبه، وصف حربه بأنها حرب الحضارة على الهمجية، والهمج هنا لا تعني سوى المُسلمين وإن لم يقلها بوضوح، ويقصد القول: أنت أيها العالم المسيحي في أمريكا وأوروبا، عليك أن تدعم حربنا هذه في كل ما نفعله، لأنَّ خطر الهمج قادم إليكم، وإذا ما انتصروا هنا فسوف ينتقلون إليكم ويخرِّبون حضارتكم، فإسرائيل تحارب نيابة عن المتحضِّرين في العالم، ومن بينهم بعض العرب المتحضِّرين بالصدفة.
«سوف أحكي لله كل شيء»، قالها طفل سوري، فماذا عسى أطفال غزة أن يقولوا لله وهــــــم يلاقونه بجموعهم الغفــيرة؟
اللغة المتدحرِجة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.11.2023