عندما ننظر إلى ما يحدث خلال حروب أو صراعات دموية تُرتكب خلالها الفظائع من قتل وتمثيل بالجثث واغتصاب وحرق أملاك وبيوت وتهجير كما حدث في كثير من بقاع العالم، بعضها في التاريخ البعيد وأخرى في التاريخ الحديث، تتبادر إلى أذهاننا تساؤلات تتعلق بماهية الإنسان وجوهره، وكيف يتحول الإنسان المسالم إلى وحش، قد يقتل ابن شعبه لأنه ينتمي إلى قبيلة أخرى، كما حدث في رواندا عام 1990 إلى 1993، وكما حدث في كوسوفو عام 1998، حيث تصبحُ الضِّباع والذئاب والتماسيح أكثر رحمة من الإنسان، فهو لا يكتفي بالقتل، بل يمثلُّ بالجثث ويغتصب ويحرق!
فإذا قتل من العدو مئة، زادت شهيته ليكونوا بضع مئات، ثم بضعة آلاف وأكثر، وقد يقتل ملايين دون أن يروي ظمأه للدم.
عندما تحدث كارثة ويحترق مئات من الأطفال والنساء والمرضى كما حدث نتيجة القصف على مستشفى المعمدانية! ردوا على الخبر بالإيموجي الغارق في الضحك تشفِّيا! ويعلقون بشتّى التعابير التي تعكس مدى الحقد العميق، بل ويعتبرون هذه الجريمة هدّية من الله وتحت رعايته.
التعبير عن السّعادة بكثرة ضحايا العدو حتى لو كانوا من المدنيين والأطفال لا يتوّلد فجأة، إنها عملية منهجيِّة وطويلة من التّحريض وغسيل الدماع التي تهدف إلى نزع إنسانية هذا العدو، حيث يحولونه إلى وحش لا يمكن التعامل معه بالمعايير نفسها التي يعاملُ فيها البشر، وهي ليست أول مرة يصف قادة دولة الاحتلال العرب والفلسطينيين بالحيوانات والحشرات وحثالة البشر وغيرها، حتى في حالات الصُّلح والسَّلام أو الهدنة، فهو يتحوِّل إلى حامل للجراثيم وناقلٍ للأمراض، ويمنع الاقتراب إلا بحذر لأنّه قد ينقل المرض.
أحد أساتذة علم النفس في إحدى الجامعات الإسرائيلية حاول تحليل نفسية هذا المخلوق من وجهة نظره، وكيف يتحول إلى وحشٍ بشري، أو ما نسميه «غول!». طبعاً لم يكن ما كتبه على صفحته في وسائل التواصل صدفةً، فقد كتب هذا بعد عشرة أيام من بدء المواجهة الحالية بين الاحتلال والمقاومة في قطاع غزة، دون أن يذكر ذلك، لكن من الواضح أنّه قصد تحليل شخصية أولئك الفلسطينيين الذين أغاروا على المستوطنات، وكما نُشر في الإعلام الإسرائيلي ووصفهم قادة إسرائيل من عسكريين وسياسيين بأنهم «وحوش بشرية» تقتل وتغتصب وتمثل بالجثث وتنهب ويجب إبادتها.
في تحليله مُعتمدًا على دراساته في الكُتب العلمية ومن تجربته الشّخصية كمعالج نفسي، عرف الكثير من الحالات، أن المُتحوّل إلى وحش يكون قد سبق ومرّ بصدمة قوية جدًا مثل نجاته من موت مؤكّد، مثلًا نتيجة تعرّضه إلى غارة بالمتفجرات، وتعرضه لخطر الموت، فيدخل في حالةِ ما بعد الصَّدمة، ولا يُعالج منها، فتبقى معه.
وربما أنّه رأى أبناء المجموعة البشرية التي ينتمي لها، قد تكون قبيلته أو شعبه أو دينه يتعرّضون للقتل والظلم. إضافة إلى هذا، فهي مشاهدته لإذلال ذويه ونزع كرامتهم وهم عاجزون عن مقاومة الظُّلم والاعتداءات التي يتعرضون لها.
ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء فقراء وبؤساء أو أميين ليتحوّلوا إلى وحوش، فقد يكونون من شريحة متعلّمة وظروفهم المعيشية جيّدة، ورغم ذلك يفقدون المشاعر الإنسانية تجاه الآخر الذي أصبح في نظرهم شرًّا خالصًا.
هنا يأتي دور القائد ذي الكاريزما القوية، الذي يعد هؤلاء المقهورين المذلولين بأنه سوف يستعيد كرامتهم وكرامة ذويهم المهدورة، وكي ينجح في هذا، فهو يضع العدوَّ في بوتقة واحدة، فهو ظلام وشرٌ مطلق، لا يوجد فيه أي نقطة ضوء أو خير، ليس فيه طيِّبون أو سذَّج أو أبرياء، فجميعهم أشرار، وتجبُ إبادتهم.
هذا ما انتهجه هتلر تجاه اليهود، فقد حرَّض الشّعب الألماني عليهم، وجعلهم أساس الشَّر، فهم سبب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وهم سبب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا، وكلُّهم من غير استثناءات يحملون الصفات الشَّريرة ذاتها، ولا بد من تطهير ألمانيا والبشرية منهم حتى تتعافى. في تحليله هذا يوحي ومن دون تصريح وكأنّ الفلسطيني المقاتل يحمل هذه المكونات التي حوَّلته إلى وحش، فهو رأى الغارات ونجا مرات من موت محقّق، ورأى ذويه مسلوبي الكرامة ومذلولين ولكنه لم يعالج مما بعد الصدمات، وإذا لم يكن هو بشكل مباشر فابن بلده أو عائلته، ويرى هذا الشخص أنَّه مكلّف باسترداد الكرامة المهدورة لنفسه ولشعبه إلى هنا.
لكن إذا كان تحليل شخصية الفلسطيني الناقم الحاقد كذلك! فما الذي يجعل مئات الطيارين يلقون عشرات آلاف الأطنان من المتفجِّرات على مبانٍ سكنية مأهولة بالمدنيين دون أن يشعروا بتأنيب ضمير! وما الذي يجعل آلاف المعقِّبين على خبر قصف مُستشفى ومقتل المئات أن يعقبوا بالضّحك والفرح والتشفّي وطلب المزيد من القتل! هل أذلهم الفلسطيني وعاقبتهم عقوبات جماعية!
هذا الفرح بمقتل أبرياء من أطفال ونساء ليس جديداً، فقد صار ما يميّز الأغلبية، فقد كانت هناك أصوات ترفض المجازر من هذا النوع، كانت أصواتٌ عقلانية، الآن صاروا يتبنّون رواية الجيش بأن صاروخ المقاومة هو الذي سقط على المستشفى، وهذا لا يختلف بشيء عن الادعاء الأولي في مقتل شيرين أبو عاقلة، ونفس رواية استشهاد الطِّفل محمد الدرة التي وقعت تحت سمع وبصر العالم وأنكروها، وهو نفس الادعاء في مجزرة قانا، وفي قطاع غزة مرات وليس مرة واحدة، وغيرها الكثير من جرائم الاحتلال التي يتنصّلون منها ويتهمّون الجانب الآخر بتنفيذها بهدف»تسويد صفحة جيش إسرائيل الأكثر أخلاقيّة في العالم».
قادة إسرائيل صوّروا الفلسطيني بأنه كله شرّ، ولا يمكن التّصالح معه، وهو شرّير، فإذا أصرَّ على مطلبه بالعدل وحاول أن يحقِّقه فلن يجدي معه شيء سوى قتله أو ترحيله!
صاروا يعلنونها بصراحة بأنَّ حلَّ مشكلة فلسطين يكمن في طرد سكانها، إلى سيناء وإلى الأردن، ولتنفيذ هذا لا بد من المجازر، لا بد من العودة إلى جولة أخرى من النكبة.
إلا أنَّه غيرُ مفهومٍ في المنطق بالبسيط ،كيف يمكن للتهجير أن يحلَّ قضيَّة أساسها التّهجير!
من يقاتل لأجل حَقٍ عمره خمسة وسبعون عاماً، بهذا الإصرار،هل سينسى حقًا عمره أسابيع أو بضعة أشهر أو سنوات!
بعد عملية السّابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لا بدّ لهم من محاولة استعادة الكرامة الشَّخصية وهيبة القبيلة، بالانتقام من «الوحوش الآدمية»، والفرح بمشاهدة قتلاهم، سواء أكانوا رجالًا مدنيين أو نساءً أو أطفالًا، فهذا الطّفل بذرة شريرة ستنمو وتكبر وتصبح مقاتلًا.
ورغم ذلك، فالاحتلال ووحشيته لم ولن يجعلا من الضحايا وحوشًا، ومن الضروري جدًا أن لا يحوّل الضحية صاحب الحق إلى وحش، ولشعبنا كانت وستبقى معاييره الإنسانية راسخة يستمدُّها من عقيدةٍ تنتقل من جيل إلى جيل، والعار كل العار للوحوش التي تفكر في طرد الناس من أوطانها ثم تلصق بهم تهمة التوحُّش عندما يصرون على حقوقهم.
ما الذي يجعل الإنسان وحشًا؟!
بقلم : سهيل كيوان ... 18.10.2023