أحدث الأخبار
الاثنين 11 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لعنةُ التّبغ…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 24.08.2023

قبل أيام قليلةٍ دخلت إلى إحدى حفلات الزفاف التي تقام في ساحة البيت، فوجئتُ بعدد الحضور الذين كانوا يدخّنون النرجيلة.
فكّرت، هل أحضرَ كلُّ واحد منهم نرجيلته من بيته!
بعد قليل، تقدَّم منّي شابٌ وسألني “على بالك أرجيلة أستاذ؟
• أشكرك!
• سجائر؟
• لا ولا شيء، أنا غير مدخن..
ابتسم بارتياح وقال: “أحسَن لك”.
في مثل هذه المناسبات يوجد أنواع معروفة من الضيافة، ولكن هذه أوَّلُ مرَّةٍ أرى النراجيل تقدَّم كجزء من الضِّيافة.
ما من شخصٍ في مجتمعنا إلا وله قصة مع التدخين.
متى بدأ يدخِّن سِرًا، وكيف استقبل والده أو وليُّ أمره الأمر، كيف عاقبه، أو بماذا نصحه! ومتى حصل على الرُّخصة.
هنالك قصصٌ لا تنتهي عن التَّبغ وتهريبه من جنوب لبنان إلى فلسطين حتى بعد النكبة بعقود، أو من قرى الشَّمال التي تشتهر بزراعته، خصوصاً في فترة الحكم العسكري، واحتكار الدولة لصناعة التَّبغ.
يجري الحديث عنه كمادة أساسية للرجل سواء كان تبغ “الهيشة” الذي أطلقوا عليه الدخان العربي (التّتن)، أو في العُلَب، وحتى تمباك الغليون.
كثيرون يفخرون بأنَّهم لا يشترون بالعلبة الواحدة، بل في عبوة “كروز” يحوي عشر علب!
بعضهم يحضر هذه الكروزات كهدايا للمقرّبين بعد سفر، وذلك لأنها أرخص في السوق الحرة في المطارات.
يفقد الأب سيطرته وحتى رغبته في منع ابنه من التدخين، بمجرّد دخوله إلى سوق العمل ورِبح المال، حينئذ يحصل على الترخيص.
تتشابه قصص البداية، بأن يطلب أحدهم سيجارة من شخص ما، ولكن هذا يقول له ممتعضاً: ما دمت مدخِّناً فاشتر لك علبة! وطبعاً شعر بإهانة، ومن يومها حتى يومنا هذا لا ينقطع من العُلَب!
في حالات نادرة يعتبر التدخين أمام الوالد عملاً غير أخلاقي، وقد تسمع من بعض الرجال أنهم لم يدخنوا قط أمام والدهم احتراماً له! علماً أنه هو نفسه مدخِّن!
في الحقيقة أنه يقصد منح الأب الشعور بأنه ما زال صاحب السُّلطة عليه.
كثيراً ما أجالس أحدهم فيسحب لفافة له ثم يعرض علي: تفضل سيجارة!
-أشكرك، أنا لا أدخن؟
-أنت لا تدخن؟ منذ متى؟ ظننت أنَّك مدخِّن؟ لقد كنت مدخِّناً أليس كذلك؟
-صحيح، ولكن توقفت عن التدخين منذ خمسة وعشرين عاماً؟
-يعني دخَّنت قبلها؟
-أكثر من علبة في اليوم، ولمدة عشرين عاماً! كنت مدمناً، كنت مثلك أتلذَّذ في شفطه إلى الرئتين!
-وكيف استطعت أن تقلعَ عنه!
-قلت لنفسي، سأتوقّف عن التدخين الآن وإلى الأبد، وتوقفت.
-كيف استطعت! أنا في كل مرَّة أمزِّق علبة السَّجائر، ولكنني أعود! يبدو أنك توقفت بالتدريج، يعني من عشرين سيجارة إلى عشر إلى خمس ثم …؟
-لا، لا هذا ولا ذاك، في ذلك اليوم كان في حوزتي بضع علب من السَّجائر، رأيت أحدهم كيف يسعل ويقذف البلغم من فمه، وقرَّرت وقف التدخين على الفور، وضعت علبة في جيبي، وأخرى أمامي على الطاولة، وأخرى في السَّيارة، لم أتهرَّب منها، ولم أُخفِها، بالعكس أبقيتها في متناول يدي كي أرفضها بقناعة وإرادة.
-هذا يحتاج إلى إرادة قوية، قلائل يستطيعون هذا، في كل مرة أحاول تركه ولكنني أعود إليه…
-لأنك لم تقرِّر حقاً.
على كل حال لست بطلاً، ساعدني في القرار حالة نفسية، صرت أرى في التدخين عملاً مقززاً ومقرفاً، رأيت حالات مقزِّزة سببها التدخين، إضافة إلى لهاث بعضهم عند صعود درجتين بعدما كانوا رياضيين وأقوياء، أنهكهم التَّبغ، صاروا عاجزين عن المشي بضع عشرات من الخطوات، ورأيت من فُتك برئاتهم فباتوا عاجزين عن التنفس إلا بأجهزة مساعدة، قرَّرتُ أنه من العيب أن أبقى أسيراً لهذه العادة السَّيئة، وصرت أنظر إلى التدخين كعملٍ بدائي ومتخلّف.
لم يُذكر التَّبغ في الشِّعر العربي القديم، ويقول باحثون إنه دخل بلاد العرب منذ حوالي أربعة قرون بدءاً من المَغرب، وقد أطلق عليه أجدادنا التسمية التركية التُّتن.
ودخل إلى الأدب العربي متأخِّراً، فنجد أبطال الروايات “سحب نفساً من سيجارته ثم نفث الدخان”، ونزار قباني في قصيدته شؤون صغيرة يجعل الدخان كالطّيب” فحين تدخِّن/ أجثو أمامك كقطتك الطيبة/
وكلي أمان /ألاحقُ مزهوةً معجبة/ خيوط الدخان/
توزِّعها في زوايا المكان / دوائر دوائر/ وترحل في آخر الليل عني/ كنجمٍ مسافرٍ كطيبٍ مُهاجر/ وتتركني يا صديق حياتي/ لرائحة التَّبغ والذكريات إلخ.
كذلك صُوَر كتابٍ وصحافيين مع السِّيجارة مثل حنا مينا ومحمد حسنين هيكل ويوسف إدريس وكثيرين غيرهم.
لا شكَّ أن السِّينما لعبت دوراً في انتشار التدخين على نطاق واسع في القرن الماضي، مشاهد أبطال أفلام رعاة البقر مع السِّيجار على طرف الفم، والتلاعب به قبيل إطلاق النار، حتى صار يبدو كجزء من مشهد الرجولة والشجاعة والمغامرة، إضافة الى الدِّعايات المكثّفة، وظهور ممثلين وشخصيات سياسية عالمية في حالة تدخين، مثل الرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين وأنور السادات مع غليونه.
لم يكن تصوير حالة الرئتين شائعاً، وما يجري لهما بسبب التدخين وتحوُّلهما إلى لون القطران! ولا دراسات تبرهن للمرة الألف، عن علاقة التدخين بأمراض خطيرة كثيرة وليس السَّرطان فقط!
يتحدَّث المدخِّنون المصرّون على مواصلة التدخين عن حالات نادرة عن مدخنين عاشوا تسعين عاماً وأكثر، ويتجاهلون الملايين من ضحاياه.
لم يعد بمقدوري أن أدخِّن حتى لو أردتُ ذلك، سيجارة واحدة تصيبني بدوار واكتئاب وسوداوية، ويتدفّق العرق من كل جسدي، يبدو أنَّ دمي نقيٌّ من هذا السُّم ولا يتقبّله.
تستغل الحكومات إدمان الناس وترفعُ الضريبة على السجائر، ورغم ذلك يُقبل عليها العمال والموظّفون من ذوي الدخل المحدود.
أما أغربهم فذلك الذي لا يدخِّن السَّجائر أبداً، ولكنَّه يدخن النرجيلة! علماً أن ضرر رأس نرجيلةٍ واحدٍ يعادل تدخين عشرين سيجارة!
إلا أن الجنون الأكبر هو في محلات تدخين النراجيل، صالات يدخن فيها عدد كبير من الزبائن بدون تهوية للصالة!
قلت مرَّة لصاحب مكان كهذا: يجب فتح الشبابيك على الأقل!
-لا تتدخل في ما لا يعنيك. هكذا كان ردُّ صاحب المقهى.
تسمع من كثيرين: لا طعم للقهوة بلا سيجارة! ويقول بعضهم: “أنا لو شئتُ لتركت التدخين ولكنني أعشقه”!
في الحقيقة، أنا أستمتع جداً بالقهوة وغيرها بلا تدخين، أما العشق فهو الإدمان بعينه، يوهِم المدمنُ نفسه بأنَّه يعشق السجائر ولا يريد تركها، ولكنّه في الحقيقة مسلوب الإرادة، ومستعبدٌ للسُّموم التي لوثّت دمه وصار في حاجة دائمة لها.

1