من بين كل الرياضات في العالم تبرز لعبة كرة القدم كواحدة من أكثر الألعاب إثارة للمشاعر الوطنية والقومية، فأثناء هذه اللعبة العجيبة يقفز الشعور الوطني والقومي إلى السطح ويصبح يتحكم بالجماهير بشكل صارخ ليس فقط أثناء ترديد النشيد الوطني قبل بدء المباراة، بل أيضاً طوال المباراة نفسها حيث يصل بعض المشجعين إلى درجة الهستيريا وهم يصفقون ويصرخون من أجل تشجيع منتخبهم الوطني ودفعه للفوز والثأر للكرامة الوطنية، فينسون كل شيء ويتحولون إلى كتلة ملتهبة من الأحاسيس الوطنية والقومية، لا بل يتجاهلون فجأة كل مشاكلهم وضغائنهم وأحقادهم السياسية مع الأنظمة التي تحكمهم. بعبارة أخرى، فإن كرة القدم قادرة أن تحول الجمهور حتى لو كان معارضاً لنظام ما إلى جمهور وطني بامتياز، فلا يتذكر وهو يشجع فريقه الوطني سوى تراب بلاده وعلمها وشعارها ونشيدها الوطني، باستثناء السوريين طبعاً، لأن النظام في بلدهم يتميز عن كل أنظمة العالم، بأنه ربط كل شيء بما فيه الوطن والوطنية والعلم بشخص السيئ الرئيس وعصابته، لذلك نرى السوريين اليوم يرفعون أكثر من علم ليس كرهاً بالوطن والوطنية، بل ازدراء واحتقاراً لمن صادر الوطن والوطنية وربطهما بشخصه القذر. وقد بدأ المعارضون الإيرانيون يفعلون الشيء نفسه بالتمييز بين الوطن الذي يمثله النظام الحاكم والوطن الحقيقي. وقد شاهدنا بعض المعارضين الإيرانيين وهم يحضرون مباراة للفريق الإيراني شاهدناهم وهم يشوشون على النشيد الوطني الإيراني باعتباره يمثل النظام الذي يثور عليه اليوم غالبية الشعب الإيراني. لاحظوا أن النظامين الإيراني والسوري حليفان على مبدأ «إن الطيور على أشكالها تقع»، لهذا يتميز الجمهور السوري والإيراني عن بقية جماهير مشجعي كرة القدم في العالم بالتمييز بين الوطن الذي يحتكره النظام والوطن الحقيقي. لكن باستثناء المثالين السوري والإيراني، نرى أن كل المشجعين من كل أنحاء العالم في بطولات كرة القدم يرتفع داخلهم منسوب الحماس الوطني إلى أعلى درجاته.
ولو ركزنا على الجمهور العربي لوجدنا أن غالبية العرب شجعت الفرق العربية حصراً بغض النظر عن أي خلافات سياسية بين الأنظمة، ولا شك أن فرحة العرب من المحيط إلى الخليج كانت عارمة بكل المقاييس عندما فاز المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني الشهير بقيادة ميسي، وتحولت المناسبة إلى مناسبة قومية عربية بامتياز، ولم يبق عربي إلا وصرخ بصوت عال وهو يشجع لاعبي المنتخب السعودي الأشاوس.
وقد كتبت بعد الفوز بلحظات أن فوز السعودية على الأرجنتين أهم من كل القمم العربية واجتماعات الجامعة العربية على مدى التاريخ الحديث، لأنه وّحد العرب خلال ثوان معدودات وجعلهم على قلب رجل واحد، فصار الجميع يصرخ عالياً: كلنا السعودية. وأتذكر أيضاً كيف عشت أنا وغيري من العرب على أعصابنا في بطولات سابقة ونحن نصفق بحرارة للمنتخب الجزائري العظيم الذي رفع رؤوسنا في أكثر من بطولة، ولكم تمنينا أن يكون حاضراً بيننا في قطر لأنه واحد من أروع المنتخبات التي أنجبها العرب، ولا يمكن إلا أن نرفع له القبعة في كل مباراياته.
ولا شك قد بُحت حناجرنا ونحن نهتف ونصفق للمنتخب التونسي الذي أبلى بلاء حسناً وخاصة بعد فوزه على حامل الكأس، الفريق الفرنسي، وكم أصبنا بخيبة أمل أيضاً من المحيط إلى الخليج لعدم تمكن المنتخب القطري بالفوز في مباراته الأولى، وشعرنا بحزن شديد. وانظروا اليوم كيف تتعلق قلوب العرب وأفئدتهم جميعاً بالمنتخب المغربي الذي لم يخرج من الدور الأول منتصراً فقط، بل تأهل أيضاً إلى دور الثمانية في مباراة تاريخية مع المنتخب الإسباني الذي هزمه شر هزيمة. وقد تحول المنتخب المغربي عنواناً للفرح والفخر الوطني والقومي العربي من بغداد حتى طنجة، مع التحية الحارة أيضاً لأي مكون غير عربي في المنتخبات العربية، وخاصة المكون الأمازيغي العزيز أخانا الرائع في الدين والثقافة. وقد استحضر البعض انتصارات العرب في الأندلس وهم يحتفلون بانتصار أحفاد يوسف بن تاشفين على أحفاد ألفونسو السادس. «اثنان وعشرون شاباً مغربياً أنجزوا ما أخفقت فيه اثنتان وعشرون قمة عربية في إنجازه. نجحوا في توحيد مشاعرنا وآمالنا وحناجرنا من شواطئ الأطلسي إلى سواحل الخليج وبحر العرب.»
لا تستهينوا بالمشاعر الوطنية والقومية عند الشعوب مهما حاولت الأنظمة قمعها وإخفاءها، فهي تبقى كالجمر تحت الرماد جاهزة للاشتعال في أي لحظة. وأكبر دليل على ذلك انفجار تلك المشاعر على مدرجات الملاعب، فتصبح الشعوب كلها كتلة واحدة. وكما يوّحد الحج قلوب المسلمين من كل أنحاء العالم جميعاً وهم يسجدون دفعة واحدة لله عز وجل في الديار المقدسة، نرى الشعوب العربية أيضاً وقد تحولت إلى كتلة صلبة وهي تصدح بأصواتها تشجيعاً للفرق العربية.
وقد ظهر هذا التعاضد والتلاحم العربيان في بطولة كأس العالم في أجلى صوره في موقف المشجعين العرب من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي حاولت التقرب منهم وإجراء مقابلات معهم، فرأينا كيف كان المشجعون العرب يرفضون أي مقابلة مع الصحافيين الإسرائيليين، وكأنهم يقولون لإسرائيل: «طبعي علاقاتك مع الأنظمة كما شئت، لكننا نحن الشعوب نرفض أي تقارب معك، وإذا كان للأنظمة ضروراتها، فللشعوب خياراتها.»
في الختام، جميل جداً أن نرى هذا التضامن العربي العظيم في أروع تجلياته ببطولة كأس العالم بدولة قطر، وكم نتمنى أن تتم ترجمته سياسياً بين الأنظمة سليلة سايكس بيكو التي ما انفكت تدق الأسافين بين شعوبها على مبدأ فرق تسد خدمة لمصالحها الضيقة ومصالح أسيادها وكفلائها في الخارج.
كرة القدم تصلح ما أفسدته السياسة العربية!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 10.12.2022