أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
أوروبا تحتضن الأبرتهايد الإسرائيلي!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 06.10.2022

بعد عشر سنوات من الانقطاع، عقد هذا الأسبوع اجتماع «مجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل». وبعد أن توقّفت الجلسات السنوية لهذا المجلس، بسبب خلافات حول قضايا الاستيطان والاحتلال والعملية السلمية، جدّد أعماله من دون أن يحدث أي تغيير في المواقف والممارسات والمخططات الإسرائيلية الاستعمارية والعدوانية والقمعية وبلا أي استجابة إسرائيلية لأي من المطالب الأوروبية الرسمية المتعلّقة بشعب وبقضية فلسطين. وصاغت صحيفة «يسرائيل هيوم»، بصريح العبارة، الإدراك الإسرائيلي للموقف الأوروبي: «على الرغم من أنه لا يوجد ولن يكون اتفاق مع الفلسطينيين، نحن في الاتحاد الأوروبي نقوم بتطوير علاقاتنا بإسرائيل وبرفع مستواها». ومع أن الاتحاد الأوروبي لم يغيّر مواقفه المعهودة المعلنة من القضية الفلسطينية، إلّا أنّه يسير باتجاه تفكيك ربط تطوير العلاقات مع إسرائيل بها، ولم يبق من الربط سوى اشتراط عدم سريان مفعول الاتفاقيات الاقتصادية والعلمية والثقافية على المستوطنات والقدس الشرقية والجولان.
تاريخ الشراكة
وقّعت إسرائيل والاتحاد الأوروبي اتفاق الشراكة عام 1995، في مرحلة القفزة الكبرى في مكانة إسرائيل الدولية، التي انطلقت بعد اتفاقية أوسلو وارتكزت إلى أوهامها. ودخل اتفاق الشراكة حيّز التنفيذ عام 2000، ليحل مكان الاتفاق السابق بين الطرفين عام 1978. ويشكل «اتفاق الشراكة» الإطار القانوني لشبكة العلاقات الإسرائيلية الأوروبية في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والصحية وغيرها، ولا ينحصر في المجال التجاري كما يعتقد البعض.
في رأس هرم الهيئات المنبثقة عن هذا لاتفاق، يقف «مجلس الشراكة»، الذي يعقد سنويا على مستوى وزراء الخارجية. وقد عقد المجلس جلسات سنوية منتظمة حتى عام 2012، وفي العام الذي يليه ألغت إسرائيل الجلسة بسبب شروط الاتحاد الأوروبي بشأن المستوطنات، وفي عام 2014 ألغى الاتحاد الأوروبي من طرفه اللقاءات تبعا لعدم تجاوب إسرائيل مع مطالبه بخصوص الاستيطان والعملية السلمية.
الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في العالم هو الاتحاد الأوروبي، ففي العام الماضي بلغ التبادل التجاري بالبضائع ما يقارب 27 مليار يورو، ووصل في قطاع الخدمات الى حوالي 14 مليار يورو. وهذه مبالغ ضخمة جدّا لدولة لا يصل عدد سكّانها إلى 10 ملايين نسمة. بعد اجتماع المجلس، يفتح الباب نحو العمل على تطوير اتفاقيات قائمة والانضمام الى اتفاقيات جديدة، بعد تجميد عملي استمر عقدا من الزمن. إن الاستفادة الإسرائيلية من تجديد عمل «مجلس الشراكة»، الذي يضبط الشراكة وله صلاحيات تطويرها وتوسيعها، هي استفادة من الوزن الثقيل والثقيل جدّا. في المقابل يمنح الاتحاد الأوروبي ما هو أقل من الفتات. ولا تصح هنا مقولة إن الاتحاد الأوروبي هو عملاق اقتصادي وقزم سياسي، لأن الإسقاطات السياسية للدعم الاقتصادي الأوروبي لإسرائيل، هي ما يجعل الأبرتهايد الإسرائيلي ممكنا وهي مكمّلة للدور الأمريكي ولا تقل عنه وزنا في نهاية المطاف.
أسباب تجديد الاجتماعات
قبل خمس سنوات، كانت معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعارض تجديد اجتماعات «مجلس الشراكة مع إسرائيل»، واشترطت تجميد الاستيطان وتجديد المفاوضات. وفي السنوات الأخيرة تآكل الاعتراض وصولا الى إجماع أوروبي بإحياء أعمال المجلس، وقابله حماس إسرائيلي بعد تولّي يئير لبيد وزارة الخارجية الإسرائيلية. ويمكن تلخيص الأسباب التي أدّت إلى تجديد اجتماعات «مجلس الشراكة» بعد عقد من الانقطاع، بما يلي:
أولا: تغيير في البيئة الدولية في أعقاب حرب أوكرانيا، حيث ارتفع في دول أوروبا وبشكل دراماتيكي منسوب الاهتمام بالشأن الأمني والتوجّه نحو المزيد من التسلّح وتطوير التقنيات العسكرية وأنظمة التجسس. وتعتقد دول أوروبية كثيرة أن إسرائيل هي «شريك» له وزنه وله قدراته في هذه المجالات. ولتعبيد الطريق نحو تعميق وتوسيع التعاون مع إسرائيل، جاء في الوثيقة المفصّلة، التي أصدرها الاتحاد الأوروبي عن اجتماع مجلس الشراكة (54 بندا في 16 صفحة)، مديح غريب لدور إسرائيل «الإيجابي» في حرب أوكرانيا، مثل أنها قدمت مساعدات إنسانية ومعدّات وقائية، وأنّها أعلنت رفضها المساهمة في التحايل على العقوبات على روسيا وأنّها صوّتت ضد روسيا في الأمم المتحدة. صحيح أن «اتفاق الشراكة» لا يشمل الشأن العسكري ومجال الأسلحة ومسائل الأمن، إلّا أنها أصبحت أولوية عليا لجميع دول أوروبا وهذا ينعكس على مواقفها من إسرائيل.
ثانيا: تهميش قضية فلسطين أصبح مسألة محورية في سياسات الدول. وما يحدث في السنوات الأخيرة أن دول أوروبا أبقت على مواقفها المعهودة كيافطة كلامية، وتقوم في المقابل بتطوير وتحسين علاقاتها بإسرائيل، وإذ هي تنطلق من حالة التهميش القائمة، فهي تساهم فيها وتغذّيها تزيد التهميش تهميشا، وقد وصل استهتار الاتحاد الأوروبي بالفلسطينيين، أنّه لم يحاول حتى تقديم «رشوة تعويض» للفلسطينيين لموازنة القفزة الكبيرة المقبلة في العلاقة بإسرائيل، واكتفى في بيانه عن اجتماع «مجلس الشراكة مع إسرائيل» بتكرار مواقفه المعهودة عن «حل الدولتين»، وبالالتزام بتنفيذ تعهداته القديمة بشأن الدعم المالي للسلطة الفلسطينية. وللأسف، كان ذلك كافيا للحصول على السكوت الفلسطيني، الذي يساهم هو أيضا في تهميش الذات، في الوقت الذي أدانت فيه منظمات حقوق الإنسان الاحتضان الأوروبي للأبرتهايد الإسرائيلي.

طوّرت منظمات حقوق الإنسان موقفها من القضية الفلسطينية، وأصبحت تعتمد بشكل دائم على تشخيص أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وأنّها تمثل حالة أبرتهايد

ثالثا: التطبيع العربي حظي بالترحيب في بيان الاتحاد الأوروبي، والأهم من ذلك أن الاتحاد أكّد على مسعاه لعقد اتفاقيات تعاون ثلاثية ورباعية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل ودول التطبيع، على نسق الاتفاقية الثلاثية مع مصر لتصدير الغاز المسيّل لأوروبا. والمثير للانتباه أن البيان الأوروبي وصف اتفاقيات إسرائيل مع الدول العربية باتفاقيات التطبيع ولم يسمّها اتفاقيات سلام أو سلام إبراهيمي (ربما لمعارضة بعض الدول)، وقبل أن يفرح البعض بهذا «الإنجاز»، يجب الانتباه أيضا إلى أن الاتحاد أدّعى بأن التطبيع يساهم في سلام مع الفلسطينيين.
رابعا: التحوّلات السياسية في أوروبا أثرت أيضا، حيث زاد وزن الأحزاب السياسية الداعمة لإسرائيل، وانعكس ذلك، على سبيل المثال، بمواقف رئيسة البرلمان الأوروبي، روبيرتا متسولا، خلال زيارتها لإسرائيل وخطابها في الكنيست، فهي لم تتطرق بتاتا لموضوع الاستيطان ولما تقوم به إسرائيل من قتل وقمع وضم زاحف، وقد فسّرت إسرائيل ذلك بأنّه اقتراب أوروبي منها وابتعاد عن دعم فلسطين.
خامسا: الحالة السياسية في إسرائيل، بعد إسقاط نتنياهو وتولّي يئير لبيد مسؤولية وزارة الخارجية، حملت معها تغييرا في التوجّه نحو الاتحاد الأوروبي. لقد حاول نتنياهو على مدى سنوات طويلة «تقزيم» دور الاتحاد الأوروبي السياسي وطوّر العلاقات مع دول وسط أوروبا، وهو لم يزر مركز الاتحاد الأوروبي في بروكسل سوى مرّة واحدة واعتبرت زيارة فاشلة. أمّا لبيد فوضع، مع توليه منصب وزير الخارجية، «تحسين» العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في رأس سلّم أولوياته واعتبر إعادة جلسات «مجلس الشراكة» هدفا مركزيا. وقد استعجل هو والأوربيون عقد الجلسة لعلّها تفيده في التنافس الانتخابي ضد نتنياهو.
سادسا: استيراد الغاز من إسرائيل أصبح مسألة مهمة لأوروبا، التي تعاني من نقص في مصادر الطاقة، وشغلها الشاغل هذه الأيام هو توفير التدفئة لسكّانها في الشتاء المقبل. وتلقى المحاولات الإسرائيلية لتسويق نفسها كمزوّد للطاقة لدول أوروبا، تجاوبا لم يتخيّله أحد قبل الحرب الأوكرانية.
احتجاج منظمات حقوق الإنسان
قبل انعقاد اجتماع «مجلس الشراكة»، وجّهت 60 منظمة حقوقية رسالة إلى الاتحاد الأوروبي وطالبت بعدم عقد الاجتماع لأن «إسرائيل مسؤولة عن ارتكاب جرائم مستمرة بحق الشعب الفلسطيني». وأثارت الرسالة غضبا إسرائيليا، ودعا رئيس جمعية «إن. جي. أو. مونيتور»، البروفيسور جيرالد شتاينبرغ، إلى وقف الدعم المالي لهذه الجمعيات لأنها، كما ادّعى، تستعمل التمويل الأوروبي ضد الاتحاد الأوروبي. ويكتسب موقف منظمات حقوق الإنسان، أهمية استثنائية، لأنّه يناقض مساعي تهميش قضية فلسطين، ويتحدّى المواقف الرسمية للدول، ويرفع سقف مواجهة المشروع الاستعماري العنصري الإسرائيلي. وهو يحشر إسرائيل في الزاوية، لأنّها لا تستطيع استعمال خطاب «معاداة السامية» ضد هذه المنظمات.
لقد طوّرت منظمات حقوق الإنسان موقفها من القضية الفلسطينية، وأصبحت تعتمد بشكل دائم على تشخيص أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وأنّها تمثل حالة أبرتهايد. وجاء في رسالة إيف غيدي، مديرة مكتب الاتحاد الأوروبي في منظمة العفو الدولية (أمنستي) أنّ «إسرائيل ترتكب جريمة الفصل العنصري (الأبرتهايد) بحق الفلسطينيين. وهذه جريمة ضد الإنسانية تتطلب من الاتحاد الأوروبي محاسبة قادة إسرائيل، وضمان عدم توفيره أي دعم لنظام الفصل العنصري الذي تفرضه. وينبغي أن يركز أي تعاون على تفكيك نظام القمع والهيمنة الإسرائيلي الفظيع.. ولا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يزعم وجود قاعدة مشتركة من الالتزامات المتعلّقة بحقوق الإنسان مع دولة تمارس الفصل العنصري». وجاء موقف منظمة «هيومان رايتس ووتش» مماثلا، وجاء فيه: «على المسؤولين الأوروبيين أن يعلموا أنهم سيصافحون ممثلين عن حكومة ترتكب جرائم ضد الإنسانية.. والتظاهر بأن الأمور طبيعية بشأن إسرائيل وسط القمع المتصاعد، هو رسالة مفادها أن إدانات الاتحاد الأوروبي بالكاد تساوي الورق الذي كُتبت عليه». قد يقول البعض أن تجديد عمل «مجلس الشراكة» الأوروبية الإسرائيلية هو شهادة فشل للدبلوماسية الفلسطينية. وهي فعلا شهادة فشل، لكن ليس من باب انعدام «الشطارة» في الحديث في الجلسات المغلقة، بل لأن الاستناد الى الدبلوماسية كأداة مركزية، وأحيانا وحيدة، لا يتلاءم مع متطلبات معارك التحرر الوطني، التي تعتبر الدبلوماسية أداتها الأخيرة، بعد النضال الشعبي الشرس والدؤوب وحشد تضامن أصحاب الضمير في العالم. ولتحريك ما في بروكسل، يجب البدء بتحريك ما في رام الله والقدس والناصرة ونابلس وغزّة.

1