أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
«مليح اللي هيك ولا غير هيك…»!!
بقلم : سهيل كيوان ... 08.09.2022

قبيل عيد الأضحى الأخير، كنت قد سافرت إلى خارج البلاد، وهو ما لا أفعله عادة في الأعياد.
في صبيحة يوم العيد، فوجئت بصورة صديق عزيز على صفحات الفيسبوك تحت عنوان «الدعاء لأخيكم بالشِّفاء بعد حادث طرق أليم»، ومن الصُّور والخبر عرفت بالضبط موقع الحادث.
يقع البيت في حيٍ أقامه الناس في منحدر جبلي حاد، وهو عمل جبار، يجعلك تقف متأمِّلاً منبهراً أمام إرادة الإنسان، وهذا بالأساس بفضل المعدات الحديثة التي لا تقف أمامها أي موانع.
الغريب أنّ صديقي هذا سائق متمرِّس منذ أكثر من أربعة عقود على الشوارع، ولا أذكر أنه تورَّط في حادث طرق من قبل، إنها المرة الأولى، وقاسية جدّاً.
أرسلت له عبر الواتسآب «سلامتك، طمّني عنك.. شو أخبارك؟» لكنه لم يرد! وفهمت من أبنائه وزوجته بأنه في غيبوبة، وأن الخطر على حياته ما زال قائماً.
بعد أيام قليلة عدت إلى البلاد، وفوراً ذهبت إلى المستشفى، والحقيقة أنني لم أتخيَّل الأمر على هذا النحو الخطيرـ فهو ما زال في غيبوبة تامة، وموصول في جهاز تنفُّس، وكان ابنه البكر إلى جانبه يجفِّف عرقه وعيناه مخضلّتان، وبصعوبة حكى لي أنه بالأمس فقط، فتح عينيه ونطق لأول مرّة ببضع كلمات.. ثم عاد إلى غيبوبته.
لكن كيف حدث هذا معه وهو السائق المتمرّس وصاحب الخبرة؟!
في صبيحة اليوم الأول من العيد، أراد أن يخرج من البيت لقضاء حاجة في البلدة في سيارة جيب، يستعملها عادة للخروج إلى المناطق الوعرية والزراعية.
في المنحدر فوجئ بأن الكوابح لم تعمل، فاندفعت السيارة، ولم يكن لديه متسع من الوقت للتفكير، فاختار أن ينحرف ويرتطم بجناح السيارة الأيمن في جدار المنحدر الصخري، وإلا فهو في طريقه إلى أسفل، السُّرعة ستتضاعف وسوف يرتطم بجدار البيت القائم على مفترق الطريق في أسفل المنحدر، وقد تمر سيارة أمامه في المفترق أو تفاجئه مجموعة من الناس أو الأطفال!
انقلب الجيب على جنبه الأيسر من جهة السائق، ثم انزلق في المنحدر على جانبه حوالي عشرين متراً، وأغمي على السائق، الذي كما يبدو تعرض لجلطة قلبية على أثر الصَّدمة، كانت زوجته تراقبه من الشُّرفة، فصرخت طالبة النجدة، فتجمّع الجيران وسحبوه من السيارة جثة بدون علامات حياة، وخلال دقائق هُرع طبيب كان قد جاء إلى الحي لزيارة ذويه بمناسبة العيد، ومعه عتاده الطبي، فأجرى له عملية إحياء، ولكنه يئس ورفع يديه مستسلماً.. إلا أنه وبإلحاح من الزوجة، حاول مرَّة أخيرة، فتنفس المصاب وعادت أمارات الحياة إليه، ونقلته سيارة إسعاف مزوّدة بعتاد العلاج المكثف إلى المستشفى.
في اليوم الثالث، وهو في وحدة العلاج المكثف، استدعت طبيبة مسؤولة ابنه البكر، وأخبرته بتأثر «للأسف، لا أمل لوالدك، فالضغط يكاد يتوقف وكذلك دقات القلب، وإذا عزلنا عنه جهاز التنفس سوف ينتهي على الفور، ولهذا ستفعلون خيراً بالتوقيع على التبرُّع بأعضائه لإنقاذها قبل أن تتلف، ليستفيد منها من هم في حاجة».
كان الابن قد عمل ممرِّضاً في عدة مستشفيات لفترة طويلة، وانتقل إلى مهنة أخرى، فاعترض على اقتراحها، وقال إنه من خلال عمله لسنوات كممرض، عرف حالات كثيرة كهذه عادت الحياة إليها، وتمسّك بموقفه أكثر بعد استشارة طبيب أخصائي تربطه فيه علاقة قديمة وكانت له نفس وجهة النظر، حينئذ حذّر الطبيبة برفع دعوى قضائية ضدها وضد المستشفى، إذا ما أوقفت التنفس الصناعي عن والده.
بعد يومين بدأ الضغط يرتفع من جديد وكذلك عدد دقات القلب، وما لبث أن استيقظ من غيبوبته، وارتفعت نسبة الأمل، وتمكّن من النطق ببضع كلمات بصعوبة كبيرة وبألم شديد رغم المسكِّنات الكثيفة، فهناك عدد من الأضلاع قد كُسِرت بالذات أثناء عملية الإنعاش العنيفة التي أنقذته.
بعد أسبوعين هبط من السَّرير وتحرّك بضع خطوات، وتحسّن قليلاً، وبعد أيام طلب إطلاق سراحه إلى البيت.
بعد حوادث كهذه، عادة ما يُطرح السؤال عن شركة التأمين والتعويض عن الإصابة وتعطيل العمل! ولكن تبيّن أن السّيارة لم تكن مؤمّنة، وأنَّ ترخيصها منته منذ شهرين، وهذا يعني أنّه لن يتلقى أي تعويض.
أحد المحامين المعروفين في المجال قال له لو أن السَّيارة مرخَّصة ومؤمَّنة لما قبلت بأقل من مليونيّ شيكل، لكنك لن تحصل على أي تعويض.
سُحبت رخصة القيادة منه، وبانتظار المثول أمام المحكمة.
كذلك فهو لا يستطيع الادعاء بأنها إصابة وقعت خلال خروجه إلى العمل مثلاً، لأنه يوم عيد وعطلة، ثم إنه صرّح في إفادته للشرطي الذي حقّق في الحادث، بأنه أراد نقل السَّيارة من مكانها بضع عشرات من الأمتار فقط استعداداً لاستقبال الأولاد والأحفاد وتوسيع السَّاحة لمناسبة العيد، ولم يذكر أنه كان في طريقه لعمل.
كلّما زرته أو خرجنا في سيارتي في جولة لتغيير المزاج.. لا نلبث أن نتحدث في الموضوع.. مليح اللي صار هيك ولا غير هيك… الحمد لله أنني لم أبتل… تصوَّر لو أنني صدَمت مجموعة من الناس.. أو بعض أولاد كانوا في الطريق، كانت وقعت كارثة.. أنا بقول الحمد لله أن الحادث وقع في راسي أنا ومش مع حدا من أولادي، تخيّل لو أنه حدث مع أحد الأولاد! مليح اللي أجت الضربة فيي ومِش في حدا منهم..
أقول- كله قضاء وقدر، ولكن لو أن السيارة مؤمَّنة.. لحصلت على مليونيّ شيكل، وبدأت رحلة نقاهة حول العالم..
– اللي صار صار، والحمد لله أنه ما كان أطفال في الطريق وإلا لكان خرب بيتي…
– وكمان مليح أن ابنك رفض التبرّع بأعضائك، وأصرَّ على أن فرصة نجاتك ما زالت قائمة، وإلا كانوا وزّعوك كل قطعة في بلد!
-وكان الأمر مرّ مرور الكرام…
-مع شكر وتقدير للعائلة…
يا أخي أتساءل.. هل كانت الطبيبة على يقين تام بأنك لن تعيش عندما طلبت توزيع أعضائك؟ هل كانت نواياها صادقة تجاه مرضى آخرين بحاجة إلى أعضاء! وهل كانت متأكدة بالفعل بأنك لن تستفيق من غيبوبتك! أم أن وراء الأكمة ما وراءها! نحن في عصر باتت المادة تطغى فيه على شيء! وكل مفعول جائز، ثم متى يُسمح في مثل هذه الحالات بقطع جهاز التنفس عن مريض أو مصاب.. ولو كنتَ شخصاً آخر لا تجربة لابنه في مثل هذه القضايا، أما كان ليوافق على التبرّع بأعضاء والده كما طلبت الطبيبة، فيسهم في قتل والده دون أن يدري! على كل حال مليح اللي هيك ولا غير هيك..
-الحمد لله هيك ولا غير هيك…

1