منذ بضع سنوات، نظّم المجلس البلدي حركة السَّير، وتحوَّلت بعض الشوارع في بلدتي من ذوات الاتّجاه الواحد.
استغرق الأمر مدة لا بأس بها حتى اعتاد الجمهور على الالتزام بالأنظمة الجديدة، ولكن البعض يحتاج إلى قرنٍ آخر للتأقلم، أو اختصار الموضوع بتنصيب شرطة سير أو مراقب بلدية يسجّل الغرامات المالية، حينئذ سوف يلتزم الجميع بانضباط ورِقيٍّ، كما يبدو أنه لا نظام لدى البشر من غير ردع للمخالفين!
في بداية العمل بالنظام الجديد، لم يتردد بعضهم عن اقتلاع لافتات لم تعجبه شاتماً لاعناً، لأنها تضطر أحدهم للالتفاف من جهة أخرى غير تلك التي اعتادها.
ليس مفاجئاً بل ومتوقع جدّاً أن تظهر سيارة من الجهة المعاكسة في طريق ضيّق ذي اتجاه واحد، أحدهم قرر اختصار الطريق!
عليك ككهل أن تستوعب نزَق الشّباب ولا مبالاة بعض الكبار، وأن تتمتع بالصبر والحكمة كي لا تعرِّض نفسك إلى مواقف مُحرجة وحتى خطيرة!
في الوقت ذاته، فأنت ترفض السُّكوت على الفوضى، واجبك أن تسهم ولو في كلمة، فالثقافة هي أن تكون جزءاً من إصلاح مجتمعك، ممكن أن تفعل ذلك مع ابتسامة من دون توتر ولا جفاء، على الأقل لإفهام هذا النوع من الناس بأن ما يفعلونه خطأ.
دخلت قبل أيام في شارع أصبح ذا اتجاه واحد منذ بضع سنوات، وبعد بضع عشرات من الأمتار ظهرت سيارة من الاتجاه المعاكس! لم أفاجأ، نبّهته بإضاءة، فردّ مثلي بغمزة ضوئية، تعني أنه استقبل إشارتي، وواصل تقدُّمه.
يبدو أنه من أولئك الرُّعناء الذين يؤمنون بأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم!
لن أتحدّث معه، فقد يردُّ بكلام لا يروقني، وينكِّد عليَّ نهاري، فليمض كلٌ منا في سبيله!
أثناء هذا، ظهرت سيارة أخرى خلفه على مسافة بضع عشرات من الأمتار! لا حول ولا قوة إلا بالله… وها هي تظهر سيارة أخرى ثالثة.. وحتى رابعة.
هذا ذكَّرني بمشهد في الانستغرام تظهر فيه مئات الأغنام وهي تتساقط في جرف عميق، لأنها تبعت الصف الأول من الأغنام الحمقى.
عندما وصل قبالتي ابتسم ابتسامة اعتبرتُها رشوة، يبدو مهذَّباً، فهناك من يرتكبون الحماقة، ثم يعبسون ويستعدون للدفاع عنها بالروح والدم!
صرنا متقابلين، لا يفصل بيننا سوى سنتمترات، وجهه مألوف، وهذه فرصة لأنبّهه، بأن ما فعله لا يليق بشاب مهذب مثله، إلا أنه بادر بابتسامة قائلاً: عمّي أبو… الطريق مغلق من الجهة الأخرى، لقد غيَّروا الاتجاهات، أنت تسير عكس السَّير…
-أنا..
-نعم أنت… وضحك
آه… الآن فهمت السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس!
الشاب يعرفني، وكنت أخمن من الملامح لأي عائلة ينتمي الشبان وحتى الأطفال، ولكن في العقود الأخيرة وبسبب الاختلاط الكثير والزواج من خارج البلدة وحتى من خارج فلسطين، صار تخمين الملاح أصعب، وصارت الفراسة تخطئ، إنه قريب من سن أحد أبنائي، وقد يكون واحداً من أصدقائهم الكثيرين!
-آسف، لم أنتبه…
-ما صار شي عمِّي… بِتصير..
بحثت عن أول طريق لألتفَّ وأرجع منه، وحين استدرت انتبهت إلى لافتة تحمل اسم الشارع، وفوجئت بأنه شارع حنا مينة.
عندما أسمع أو أرى اسم حنا مينة، أذكر فوراً رواية «الشمس في يوم غائم».. فهي أول رواية قرأتها له، وأذكر أنها شدَّتني جداً، فقرأتها على جلستين أو ثلاث، قرأت غيرها من رواياته، لكن بقيت تلك الأكثر تشويقاً في حينه.
تسمية شارع على اسم كاتب عربي ليس جديداً، في معظم بلداتنا العربية تسميات شوارع على أسماء شخصيات من تاريخنا في مجال العلوم والأدب والسياسة، وهي متكررة مثل الخوارزمي وابن الهيثم والفارابي وابن رشد والمتنبي، القدس، صلاح الدين، ابن سينا وابن الخطاب!
شعرت بغبطة خفية، بشارع حنا مينة، لأنه يعتبر كاتباً حديثاً، فالتقطت صورة للافتة، وانتبهت أن الشارع الذي قدمت منه هو شارع خليل مطران…
عدت لأمضي في الاتجاه الصحيح، وقد لفتت انتباهي تسميات الشوارع.. أم كلثوم مثلاً، وهذا ليس صدفة، ففي الشارع نفسه يقطن أول أستاذ موسيقي في بلدتنا، شارع فيروز، مي زيادة، راشد حسين، نوح إبراهيم زجّال ثورة السِّتة وثلاثين، إدوارد سعيد، الخنساء، نجيب محفوظ، الشَّام، خالد بن الوليد، محمد الفاتح.. محمد عبده.. ظاهر العمر.. ابن حيان.. الغزالي.. الشّعراوي، رابعة العدوية، الأندلس، لافتة ضخمة فوق المكتبة العامة على اسم الشاعر سميح القاسم، وليس بعيداً عنها مدرسة محمود درويش الشاملة.
معظم الشوارع تحمل أسماء أدباء، هذا جعلني أشعر بشيء من الفخر والاعتزاز في بلدي.
في المجلس البلدي لجنة تسميات مؤلفة من أعضاء مجلس وشخصيات جماهيرية، أحدها أستاذ في التاريخ، الباحث عمر الشيخ محمد.
لحسن الحظ أن جميعهم من أولئك الذين يقدّرون قيمة الكلمة المكتوبة، ولهذا كانت النتيجة المتنوِّعة، التي راعت التعددية الثقافية لمجتمعنا.
بقية الأسماء هي مواقع معروفة في البلدة مثل مغارة عيسى وطريق المراح، فالموقع يأخذ اسمه من أسماء من عاشوا فيه، أو نبات كثُر فيه مثل الزعتر وعصا الراعي، أو تسميته بحكم موقعه الجغرافي مثل الصعبنية، وذلك لصعوبة الوصول إليها، أو الزِّيتية؛ نسبة للزيتون الكثير فيها، أو على اسم صاحبها مثل خلّة أبو زيد، أو عريض كيوان، وعريض خضر، وكرم منذر، أو تين أبو عجلان، وقد يكون عجلان لأن ثماره تنضج بعَجلة، أو أنه اسم صاحب المكان عجلان! والعزيب لأنه بعيد لا تطأه قدم.. ومن هنا الأعزب والعزباء التي لم توطأ بعد، والنيرب ومثله يوجد في سوريا، وهي المنطقة المنبسطة في اللغة السريانية وغيرها.
بين مئات أسماء المناطق اسمٌ غريب هو (شْطينة) بتسكين الشين! وما أعرفه وسمعته كثيراً ممن يكبروننا، أن المنطقة أرض وقفية، كان النّور قبل النكبة عندما يأتون، يقيمون مخيّمهم فيها، حيث يقدِّمون عروضهم الترفيهية من الموسيقى والرقص والمشي على الحبال واللعب مع القردة، وغيرها!
في يوم ما، صادفت أثناء مطالعتي اسم بلدة أوروبية تحمل اسم (شتاينة)، مع ملاحظة أنه يتجمع فيها الكثير من الغجر! حينئذ ربطت بين اسم شطينة وشتاينة.. يبدو أن الناس كانوا يسألون النَّوَر من أين أنتم؟ فيجيبون، من شتاينة! فصاورا يسمونهم نوَر شْطاينة، بعد النكبة غاب النّور وبقي المكان الذي صار في وسط البلدة، وفيه مسجد وموقف سيارات وبقالة، ولافتة شْطينة. قد أكون مصيباً أو مخطئاً… بحثت في الشبكة عن بلدة (شتاينة) من جديد، ولكنني أضعتها ولم أجدها حتى اللحظة…
حنّا مينه وميّ وراشد وإدوارد …!!
بقلم : سهيل كيوان ... 11.08.2022