نسمع في كل مناسبة سياسية لها علاقة في المنطقة، من مسؤولين وقيادات من دول عربية وأجنبية، تدعو الإسرائيليين والفلسطينيين للعودة إلى طاولة المفاوضات، وإحياء ما يسمونها عملّية السلام، بعضهم يمثل دولاً قريبة من الصراع وتتأثر به، وبعضها أبعد، حتى تحوّل مطلب العودة إلى المفاوضات، وسيلة مهذّبة للتملّص من المسؤولية، والدور الفاعل الذي تستطيع ويفترض أن تلعبه دول عربية لها ثقلها الإقليمي وحتى الدولي، ودول أخرى تهتم في الشأن الفلسطيني، سواء من دول تقيم سلاماً مع إسرائيل مثل مصر والأردن، أو مُطبّعة علناً، أو تخشى الخروج من الصندوق بسبب حساسية موقعها مثل السعودية، الحجاز بلاد الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين، من دون وضوح حول ماذا سيجري هذا التفاوض الذي يطالبون به!
التفاوض يجري بين طرفين أو أطراف تعترف بوجود خلافات على تفاصيل صغيرة، لكن ضمن إطار عريض متفق عليه بين طرفيِّ صراع، ولا أمل في مفاوضات تجري بين طرفين يفكِّر أحدهما بإلغاء وجود الآخر، بل لا يعترف بوجوده أصلا ككيان مستقل! التفاوض يجري عادة حول إشكاليات معيّنة، مثل التاريخ المناسب للانسحاب من موقع، أو ترسيم طفيف للحدود بين كيانين، يعترف أحدهما بالآخر وحقوقه، وعلى حجم التعاون المستقبلي في الاقتصاد والسياحة والتعاون الحدودي، وتسليم مناطق وإنزال علم ورفع آخر، لكن لا يجري بين طرفين، ينكر أحدهما وجود الآخر من أساسه، كشريك في صنع السلام، بل ينظر إليه كعبد مأمور. موقف حكومات إسرائيل المختلفة واضح، وهي ثوابت تُجمع عليها أحزاب السلطة أو المرشحة للسُّلطة، ومن كانت في السُّلطة، القدس كعاصمة إسرائيل الأبدية، وتخفيف عدد العرب فيها قدر المستطاع بشتى الوسائل حتى المُدانة دولياً، وإبقاء المستوطنات الكبيرة وتوسيعها وزيادة أعداد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس، والتهام المزيد من الأرض، وعدم السّماح بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة بين البحر والنهر، وعدم اعتراف بحق العودة للفلسطينيين، وسيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على كل الحدود، أي أنّ الإطار التفاوضي الواسع الكبير غير موجود أساساً، وهذا ما جعل المفاوضات منذ البداية حالة عبثية، والدعوة للعودة إليها، أكثر عبثية من المفاوضات نفسها. تحوّل شعار العودة إلى مائدة المفاوضات، إلى كلاشيه لرفع العتب إزاء ما يمارسه الاحتلال على أرض الواقع، الذي لا يُلتفت إليه إلا بعد ارتكاب جرائم مذهلة، كما حدث في جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي أظهرت وحشية الاحتلال بأقذر ما يمكن، كذلك فإن نشاطات نضالية يقوم بها فلسطينيون تلفت الأنظار، ثم تعود الأمور إلى جمودها. المطالبة بالعودة إلى مائدة المفاوضات، صارت مثل حكاية ابريق الزيت للأطفال، يردِّدُها المتحدِّث إلى أن يتذمّر الطفل ويدرك عدم وجود قصّة حقيقية.
لقد قُتل الأمل، حتى لدى من آمنوا بوجود حل حقيقي بالتفاوض في ظل حالة من اختلال ميزان القوى بصورة فظيعة، وفي ظل الضعف العربي الذي بات بعضه يلعب دور الوسيط بين الاحتلال وضحاياه، وليس دور الدَّاعم الحازم للضحية.
لم تكن مفاوضات في الواقع، ولن تكون سوى إدارة صراع بأشكاله المختلفة بانتظار الحرب المقبلة، التي يقرّبونها حيناً ويؤجِّلونها حيناً آخر، السؤال هو من الذين سيكتوون بنارها، ومن الذين قد يجدون أنفسهم متورطين فيها؟ الحملات العسكرية حتميّة، وما يمنع اشتعالها الآن هو السؤال ماذا بعدها؟ وماذا يمكن أن تسفر عنه؟ وإذا ما كانت ستؤدي إلى العودة إلى نقطة الصفر، فهل هذا ما تريده إسرائيل! طبعا لا؟ تريد إسرائيل من السلطة الفلسطينية أن تواصل لعب الحارس الأمني والإداري مقابل الأموال التي تحرِّرها من أموال الضرائب وغيرها مما يصل من دول مانحة! إسرائيل معنية ببقاء السُّلطة لأن حلها يعني عودة القضية إلى أيدي الناس في الشّارع الفلسطيني، الذين أبدعوا في السابق في مقاومتهم للاحتلال خلال انتفاضات سابقة، ولا شك في أنهم قادرون على الإبداع دائماً!
الشعب الفلسطيني الأعزل يقاوم يوميا، ويرفض سياسة الأمر الواقع بقوّة السِّلاح، وهو الذي يربك حسابات الاحتلال مهما بلغ جبروته، ويقدم الضحية تلو الضحية، لتبقى قضيته حيّة في أذهان العالم، القريب والبعيد، ويحول دون أن تصبح قضيته، مثل قصة ابريق الزيت..
حروب مؤجّلة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.05.2022