كالعادة، شوهد في أحداث الأقصى الأخيرة جنودٌ من حرس الحدود ينقضون بوحشية على طيور الجنّة، أحدهم ربما في العاشرة من عمره، وهذا ليس جديداً.
كثيراً ما يتبادر إلى الذهن السُّؤال: لماذا يقمع جيش الاحتلال القوي جداً الأطفال بهذه الشراسة؟ ألا يستطيع الجنود الذين يرتدون العتاد الحربي المُحكم، أن يغضُّوا الطَرف عن طيرٍ هتف للأقصى أو لفلسطين!
للطفولة الفلسطينية قصصٌ كثيرة مع الاحتلال وتضحيات لا تحصى، إذ قدّم الأطفال مئات الشهداء على مدار السنين، وآلاف الجرحى، وآلاف المعتقلين والأسرى لمدد مختلفة، كذلك فإن الأطفال هم الذين يدفعون الثمن الباهظ، عندما يفقدون المعيل سواء كشهيد أو أسير أو جريح!
لهذا إسقاطاته عليهم طوال سني حياتهم، فقد يضطر بعض هؤلاء إلى العمل في سن مبكّرة جداً لإعالة أسرهم، وقد يعيش بعضهم في حرمان طويل، وقد يتعرض بعضهم إلى اعتداءات في غياب الحماية لهم.
أشهرهم في الفترة الأخيرة، ذلك الطفل الذي صار شاباً في السجن، والذي سأل محاميه إذا ما كان الانتحار في حالته حلالاً أم حراماً، الأسير أحمد المناصرة الذي اعتقل وهو في الثالثة عشرة من عمره بتهمة طعن مستوطنين، والذي استشهد ابن عمِّه أمامه، ثم تعرّض لضربة على رأسه وفقد وعيه، ثم اشتهر بمقولته للمحققين «مش متذكّر»! وقد عمدت سلطات الاحتلال على تحطيمه نفسياً وجسدياً، ليكون عبرة لكل أطفال فلسطين.
انطلقت قبل أسبوع حملة دولية لإطلاق سراحه، خصوصاً بعد أن أسقطت عنه المحكمة المركزية في بئر السبع تهمة الإرهاب، وتحوّل ملفه إلى جنائي، وصار من حقِّه القانوني الحصول على تخفيض ثلث محكوميته التي قضى منها سبع سنوات من أصل اثني عشر عاماً، وهي من أصلها ظلمٌ، لأن الاحتلال هو الذي يجب أن يحاكَم.
الإضرابات الاحتجاجية تبدأ بإغلاق المدارس، وعملياً فإن انطلاق الطلاب خارج جدران الأطر التعليمية والانضباط، يدفع بعضهم إلى الانخراط في مواجهات مع قوات الاحتلال، وغالباً لا تكون مخططة، فهي تنشأ تلقائياً مع مرور دورية احتلال أو وصول خبر مفاجئ عن سقوط شهيد، أو عملية هدم أو اعتداءات مستوطنين على ممتلكات أو على أفراد.
الطفل قد يتناول حجراً عن قارعة الطريق لإلقائه على سيارة عسكرية، لشعوره بأن هذا ليس ودوداً وليس صديقاً، بل لمعرفته بأن العدوان يكمن في هذه المركبات! قد يسقط ضحيتها فيستشهد أو يعتقل أو يتعرَّض للضرب بلا رحمة، خصوصاً بعد منح الجنود ترخيصاً رسمياً ودعماً «أخلاقياً» يسمح لهم بإطلاق النار على من يلقي حجراً أو زجاجة حتى بعد انتهائه من إلقاء الحجر وفراره، أي بعد انتهاء خطره، قافلة الشهداء القاصرين طويلة، وكان الفتى يامن نافذ جفّال من أبو ديس مثالاً على هذا في آذار الأخير.
في مقابلة انتشرت على التيك توك، يحكي جندي إسرائيلي خلال مقابلة مع فضائية أجنبية، أعتقد أنها أمريكية، أنه أجرى خدمته العسكرية في منطقة التّماس في وسط الخليل، قال فيها إن مهمة الجنود هي بثّ الشّعور لدى الفلسطينيين بعدم الأمان بصورة مستمرة، وبأنهم مراقبون وملاحقون، وأن اقتحام بيوتهم قد يحدث في كل لحظة، ومن دون أي سبب، سواء في الليل أو في النهار وبدون إنذار مسبق!
قلب البيت رأساً على عقب، أو اعتقال شخص ما، دون أي سبب! الهدف هو بثّ حالة من القلق المستمر والشعور بالملاحقة والعجز لدى الفلسطينيين، وإقناعهم بقدرة الإسرائيليين على التواجد المستمر وبأعداد كبيرة في كل لحظة من اليوم! بهدف تحطيم روحهم المعنوية، لهذا رأى هذا الجندي أنه لا يوجد جندي يستطيع أن يخدم في الجيش وأن يبقى نظيفاً في الوقت ذاته، فهو لا بد أن يتلوّث مرغماً، حتى وإن لم يكن يقصد ذلك، لأنه مضطر لتنفيذ الأوامر.
هذا يعني أن ما نراه من قمع للطفولة الفلسطينية ليس تصرُّفاً فردياً قام به جنديان منفلتان، أو أنها لحظة غضب عابرة، أو ردَّة فعل على طفل رجمهم بحجر أو هتاف أو شتيمة، بل هي سياسة منهجية موجّهة لتحقيق عدد من الأهداف! على رأسها أن لا حصانة لأحد من جيل صفر إلى 120!
الهدف الثاني إظهار قسوة وغلاظة وهمجية جنود الاحتلال لبث الرُّعب في قلوب الأعداء الفلسطينيين خصوصاً، والعرب عموماً.
ليس صدفة أن يجتمع أحياناً ستة أو عشرة جنود على شاب واحدٍ أو حتى على طفل واحد لاعتقاله، الأمر الذي يثير دهشة المشاهد «ولَو شو السِّيرة! كل هؤلاء لاعتقال واحد؟!».
نعم نعم، فالهدف هو إظهار الحزم والبطش والبأس والكثرة العددية والقوة التي تكتسح كلَّ شيء في طريقها، فاهربوا.
بث الذعر في نفوس الأهالي على أطفالهم لحثّهم على منعهم من المشاركة في المواجهات، أي أن يقوم الأهالي بدور الحرس لدوريات الاحتلال.
اعتقال الأطفال تحت التنكيل من ساحات المواجهة إلى مراكز الاعتقال، لإشغال ذويهم في العمل على إطلاق سراحهم! وهذا يتطلب توكيل محامين لإثبات البراءة، أو تخفيف التهمة للحد من العقوبات المنتظرة في حقهم، أو إرغامهم على دفع كفالات لإطلاق سراح أطفالهم بشروط معيّنة.
الهدف الرابع هو فتح المجال لوساطات دول عربية أو سفارات أجنبية لدى حكومة الاحتلال لإطلاق سراح المعتقلين، وخصوصاً القاصرين منهم، وحينئذ تبدو سلطات الاحتلال كمن قدّمت خدمة طيّبة وتنازلت كرمى لعينيّ هذا الوسيط أو ذاك، ومن ناحيته يتباهى الوسيط بنجاح وساطته، ويسجّل نقطة لصالح نظامه تجاه قضية تهم الأمَّة كلها.
إدخال شعور لدى الطفل بأنه غير محمي وغير آمن، وأن قيادته أو الكبار في مجتمعه، وبينهم ذووه، عاجزون عن حمايته من العقاب.
ما لا يفهمه الاحتلال ولن يفهمه، أن الطفولة البريئة لا تحتاج إلى دروس وإلى تلقين كي تعرف مصدر الشَّر، الطفولة تدرك أن هناك صراعاً يجري أمام بيوتها وفي حاراتها وعلى أرضها بين الخير والشر، بين الطيّب والخبيث، بين العدل والبطش، وهي تدرك عفوياً بأن الجنود الذين يقيمون الحواجز حيث يُقتل الناس ويذلّون، ليسوا سيّاحاً طيبين، بل غرباء يغتصبون بلدهم، وبأنّ نواياهم سيِّئة، الأطفال يقرأون بسهولة الملامح التي تحبّهم، والملامح التي تضمر لهم أو لذويهم سوءاً، ولهذا فإن المواجهة بين الاحتلال وطيور الجنة حتمية، لأن الطفولة حلقة لا يمكن فصلها عن حلقات الشَّعب الأخرى، فاحتلال الوطن يعني الاعتداء على كل ما فيه، وحتمية المواجهة مع كل من فيه.
حتمية المواجهة بين الاحتلال وطيور الجنّة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 21.04.2022