كنت أقف جانبًا وأراقب القصّاب.
أحياناً يجرُّ ماعزًا أو غنمة بالحبل، وهي تضرِبُ أظلافها في الأرض مقاوِمةً وقد أدرَكَتْ ما أُعدّ لها، يسوقها بالقوة، وأحد أبنائه من ورائها يدفعها، ويضطر أحيانًا إلى رفع إحدى قوائمها عن الأرض، أو رفع ذيلها بقوة، لتستمرَّ عملية الدفع باتجاه الملحمة حتى تصلها.
قد يتأخّر دورها في الذّبح بعض الوقت، حيث تُربط بجذع شجرة الزّنزلخت القريبة، وقد يوصلونها بدون انتظار، إلى المكان المُعدِّ حيث يبطحونها، ويكون رأسها مشرفاً على قناة صغيرة حيث سيهرق دمُها.
تقاوم وتثغو بصوتٍ مفجوع إلى أن تضعف مقاومتها وتُرمى أرضًا، وتُثبَّتُ قوائمها، ثم تحاول الخلاص للمرة الأخيرة برفع رأسها، لكنها لا تلبث أن تيأس وتسلّم عنقها للنصل الذي تسبقه البَسْملة.
شاهدتُ معارك كثيرة لعجول البقر، لكن إحداها تحوّلت إلى ما يشبه مصارعة الثيران.
عشرات الرجال يطاردون ثورًا قويًا متمرِّداً وعنيداً.
بدأت المعركة من مركز البلدة، حيث ساحة العين التي تتفرع منها طرق إلى مختلف حارات البلدة، بعد أن أنزلوه من سيارة تجارية، أُفلت وثاقه، تحرّر وهاج وصار يدور ويدور في السّاحة، ويتجمَّع عددٌ أكبر من الرجال الذين أخذوا على عاتقهم مهمة منعه من الهرب، ومن وراء ساحة المعركة يُطلُّ نساء وأطفال.
يركض الرِّجال وراءه بحبال وهراوات يحاولون السّيطرة عليه، لكنه يرتاح للحظة ثم يندفع شاقاً طريقه إلى شارع خارج السّاحة، حيث يعدو بحرِّية أكبر ووراءه الرجال يحاولون محاصرته بحذر، وبين حين وآخر يبدو وكأنهم نجحوا في حصاره واقتربوا من السّيطرة عليه، لكنه يناور وينجح في تشتيتهم، ويتملص مثل لاعب كرة قدم ماهر، يركض كل مرة في اتجاه مختلف معتمدًا على قوته السّاحقة، وخوفهم من نطحته التي قد تكون مؤذية جدًا، فلا يدنو منه أحد إلا بحذرٍ شديد وخوف، أحدهم تجرّأ على الإحاطة بذراعيه حول عنقه، فقد كان لديه وهمٌ كبير بقوَّته، ولحسن حظه أن إصابته لم تكن قاسية، فقد رفعه مثل خرقة لينخبط في الأرض.
كأنّما أصابه جنون، ويريد الانتقام.
«لقد شمَّ رائحة الدم» ردَّد أكثر من واحد، الثور عرَف مصيره، سيحاول أن يهرب، سبحان الله لقد شعر باقتراب نهايته».
كانت رائحة الدَّم في ذلك النهار قوية، ممكن تمييزها من مسافة عشرات الأمتار، فقد سبق الثّور عدد من الذبائح الصغيرة.
أكثر من واحد اقترح طريقة ما للسيطرة عليه وتثبيته، شدّدوا على أن ضعفه في ذيله، رموا عليه أنشوطة الحبل مرات ومرّات، مثل رعاة البقر، لكنها كانت تسقط على قرنه الصغير وتفلت، أو على كلا قرنيه الأملسين ثم تفلت بحركة من رأسه حتى بعد شدّها، تتكرر المحاولات وتفشل.
قال أحدهم: لماذا لا نحضر من يطلق رصاصة في ساقه ثم نذبحه بالحلال؟
كان في البلدة أربعة أو خمسة مسلحين بترخيصٍ في البلدة.
لم يؤيده أحد، وقال اللحام متذمراً: لا أريد جميلاً من أحد، إلى هذه الصورة بتنا عاجزين؟ يجب إحضاره سالماً وذبحه حسب الأصول، لقد ذبحنا المئات من قبله.
تعب الثور من الجري، فصار يركض مسافة أقصر ويتوقف بين وجبة ووجبة، وصاروا يقتربون منه أكثر، رغم أنهم تعبوا مثله.
صاروا يخلون الطريق أمامه فقط كي ينجحوا في توجيهه وإعادته إلى السّاحة حيث الملحمة.
بعد أن التفّوا حوله من ثلاث جهات، نجحوا في إعادته إلى الطريق المؤدي إلى الساحة، لكنه كان بين حين وآخر يعدو في طريق فرعي إلى أن يصل نهايته بين البيوت، أو إلى شريط شائك أو جدار، ويعتقدون أنهم حاصروه أخيراً، لكنه لا يلبث أن يفلت منهم.
الجميع متعبون، الثور والرجال الذين أحسّوا بخجل ما أمام النساء اللاتي كن يراقبن ما يجري من الشرفات ومداخل البيوت بحذر شديد… حتى أن بعضهن صرن يبحن بما يفكرن: ولو شو السّيرة؟ أين الرجال الذين كانوا يبطحون الثور! لا حَيْل في هؤلاء… كان الرجل يبطح الثور وحده بدون مساعدة من أحد.
وقف شاب رقيق العود، وجهًا لوجه أمام الثّور، أمسك بالأنشوطة واقترب حتى صار على بعد خطوات معدودة ثم ركض في مواجهة الثور ورماها وشدَّها فعلقت.
بدا كواحد من رعاة البقر المحترفين الذين كنّا نشاهدهم في السينما.
انقض عددٌ من الرجال وأمسكوا بالحبل الثّخين، اثنان رفعا ذيلَه بقوَّة، فالجميع يؤكد بأنها نقطة ضعفه، وأسرع آخرون لشَبك ساقيه الخلفيتين بحبل آخر، وبدأوا بسحبه خطوة خطوة.
يحاول أن يستأنف الركض لكنه يتعثّر، فقد كانوا يشدّون بحبلين، واحد في عنقه والآخر في قائمتيه الخلفيتين، والكل يشد، والجميع سابح في عرقه وعطش ويلهث.
الآن بدا مقترباً من الاستسلام، فقد مشى الخطوات الأخيرة منهكًا، يتوقف للحظات ويخور بألمٍ وفجيعة، كأنه ينطق مااااااااه، وكان ينظر إلى المحيطين نظرة يأس وحزن.
بدت عيناه حزينتين تكادان تدمعان، وعندما وصل إلى المذبح، حاول استعادة زمام المبادرة، لكن الرجال أطلقوا كلمات شامتة. وثَّقوا قوائمه الأربع، وما زال يصدر صوتاً غريباً متقطعاً كأنّما يشتمهم ويتفُّ عليهم.
ثبت بعضهم الرأس، وانحنى الجزّارُ بهدوء، ووضع ركبته اليسرى على عنقه، ثم بسمل وحزَّ أوردته، ففارت منه نافورة حمراء وبخار لطّخت وجه القصّاب وثيابه، وواصل حزَّ عنقه بإصرار قاطعاً الأوردة فيصدر عنه نجيع وبخار، أراح يده للحظات ثم استأنف عمله حتى فصل الرأس عن الجسد.
غسل الجزّار السِّيخ الكبير من الحنفية المثبتة على جدار داخل الملحمة، ثم غسل وجهه ويديه فوق المرفقين، ثم عاد، وببطء ربط إحدى قائمتي الثور الخلفيتين بجنزير له حَلَقة، وعلقه في كُلاّب، ثم تعاونت الأيدي على رفعه بالبَكَرة، وما لبث القصاب وأحد أبنائه أن بدآ في سلخه وتقطيعه.
تخلَّلَ هذا ضحكٌ وابتسامات متشفية في الثور: الملعون قاوم! العَكروت عرَف مصيره.. شفتم كيف قاوم؟ إنَّه شرس وقوي.. أتعبنا، ظنَّ أنه سينجو من الذبح، لكن كيف، وين بدِّك تهرب من السِّيخ؟
كانت كومة من جِزارة من سبقوه ملقاة جانبًا، انضم إليها رأسه وكرشه وأمعاؤه وجلده وأظلافه، لكن ما زالت عيناه مفتوحتين، يؤمُّهما ذباب أزرق وأخضر، كأنَّ الدماغ ما زال واعيًا لما جرى ويجري رغم فصل الرأس عن الجسد.
حفلة الثّور…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 07.04.2022