احتفل الإعلام الإسرائيلي بما سماه الزيارة التاريخية ذات المدلول الاستراتيجي، التي قام بها وزير الأمن الإسرائيلي الجنرال المتقاعد بيني غانتس، للمغرب، والتي وقّع خلالها اتفاق تفاهمٍ عسكري وأمني ومخابراتي، لم يسبق للدولة العبرية أن وقّعت مثله مع أي من دول التطبيع العربي. واستبشرت إسرائيل خيرا بأن وضعت “قدما ثابتة” في منطقة شمال افريقيا، تمكّنها، كما تدّعي من محاصرة التوسّع في الوجود الإيراني في القارة السوداء.
لقد سارعت إسرائيل إلى استغلال تصاعد التوتّر بين الجزائر والمغرب لتقوم بتعميق حشر أنفها في المغرب العربي. وتباهى مقرّبون من وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد (يبدو أنّه هو المقربون) بأن تصريحاته خلال زيارته المغرب، ساهمت في التصعيد وقطع العلاقات بين البلدين العربيين. وجاء في توضيح صريح للموقف الإسرائيلي: “إسرائيل والمغرب شريكان مهمّان في المحور البراغماتي الإيجابي، مقابل المحور المعاكس الذي تشارك فيها الجزائر وإيران”. ترجمة هذا الكلام في إسرائيل هو أن من “حقّها” الدفاع عن نفسها في مواجهة إيران وحلفاء إيران. وكعادتها أطلقت المواعظ للجزائر: “من الأفضل للجزائر أن تكرّس جهودها لحل المشاكل الكثيرة التي تواجهها، وفي مقدمتها مشاكلها الاقتصادية الصعبة”. لو كانت العلاقة بين المغرب والجزائر على ما يرام، لكان من الصعب جدّا على إسرائيل أن تحقّق ما حققته من اختراقات في المغرب العربي، على الأقل ليس بالمستوى الذي شهدناه مؤخرا، ولكنها رأت قطع العلاقات هو فرصة سانحة، واستغلّتها بذكاء لتحقيق مآربها الخبيثة، وفي مقدمتها تفكيك المنظومة العربية، التي ترى فيها خطرا على المدى البعيد، وكذلك فرض معادلة سلام مقابل السلام على العرب، وتهميش القضية الفلسطينية أكثر فأكثر، إضافة إلى بسط هيمنة استراتيجية تتجاوز الشرق الأوسط نحو القارة الافريقية بأسرها.
لماذا استهداف الجزائر
الجزائر اليوم هي من الدول العربية القليلة، التي وضعت نفسها في موقع خارج نطاق النفوذ الإسرائيلي (كانت هناك اتصالات بداية القرن، لكنّها سرعان ما توقّفت). وهذا الموقع في حد ذاته مصدر قلق للدولة العبرية، التي حقّقت نجاحا عربيا فاق كل توقّعاتها، فهي لم تستطع فقط تحييد الدول العربية عن الصراع، بل أقامت تحالفات معها جعلت هذه الدول أقرب إليها منها إلى فلسطين. ليس فقط أن الجزائر ترفض الانضواء تحت مظلّة التطبيع العلني، ولا تمارس التطبيع المخفي، بل هي تواجه إسرائيل بثلاثة تحدّيات كبرى:
التحدّي الأول: هو وقوف الجزائر العنيد ضد انضمام إسرائيل إلى منظمة الوحدة الافريقية، وكان وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد قد هاجم الجزائر بسبب مساعيها لإبعاد إسرائيل عن الاتحاد الافريقي. وقد استطاعت الجزائر، حتى الآن، إقناع 13 دولة افريقية بالوقوف ضد منح إسرائيل صفة تمثيلية رسمية في منظمة الوحدة الافريقية، وهذه الدول هي: جنوب افريقيا وتونس وإريتريا والسنغال وتنزانيا والنيجر والكاميرون وغابون ونيجيريا وزمبابوي وليبريا ومالي وسيشل. والواضح أن غالبية الدول العربية الافريقية ليست ضمن القائمة، حيث تغيب عنها مصر والسودان وليبيا والمغرب وموريتانيا، إضافة إلى جيبوتي والصومال. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأهمية المتزايدة، التي توليها إسرائيل للعلاقات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية مع الدول الافريقية، يمكن تقدير حجم وشدّة العداء الإسرائيلي للسياسة الجزائرية.
التحدي الثاني، هو الادّعاء بأن للجزائر ارتباطا قويا واستراتيجيا مع إيران، لذا ترفض الدخول في تحالفات إقليمية ضدها. هنا يجب أنّ نفرّق بين حقيقة ما تعرفه إسرائيل عن هذه العلاقة، وما تدّعيه من مبالغات، تهدف إلى استغلال التوتّر بين الجزائر والمغرب، لتأليب الأخيرة ضد إيران وتثبيتها كعضو فعّال في التحالف المعادي لإيران. إسرائيل تقوم بالتجسّس على الجزائر بشكل مباشر وعبر المشاركة في تفعيل منظومات التنصّت والرصد، إسرائيلية الصنع، وهي تعرف تماما طبيعة العلاقة الإيرانية ـ الجزائرية، وبأنّها لا تختلف جوهريا عن علاقات الجزائر مع تركيا وجنوب افريقيا ومصر، على سبيل المثال.
التحدي الثالث، هو الدعم الكامل للقضية الفلسطينية، ورفض أي حديث عن تطبيع قبل حل القضية الفلسطينية حلا عادلا. فموقف الجزائر هو من بقايا الموقف العربي التاريخي المعادي للعدوان الإسرائيلي، وهي الدولة العربية المستقرّة الوحيدة، التي لا تمارس التطبيع العلني ولا التطبيع السرّي، ولا تقف بالدور للانضمام إلى الركب الإسرائيلي. الخريطة السياسية العربية، في علاقة بالشأن الفلسطيني، تتشكّل من دول فاشلة ومنهارة لا سياسة لها، ودول تطبيع علني، ودول تطبيع سرّي، إضافة إلى دول وعدت إسرائيل بإنشاء علاقة معها، كما يردّد مسؤولون إسرائيليون ليل نهار “هناك دول أخرى على الطريق”. لو ضمنت إسرائيل أن تبقى الجزائر لوحدها في الموقف العربي التقليدي، لما همّها الأمر كثيرا، لكنّها استشعرت خطرا مستقبليا بأن تقوم الجزائر عربيا بما تقوم به افريقياً، وتقوم بالتصدّي للتغلغل الإسرائيلي في الوطن العربي. ومع كل هذا فإنّ إسرائيل ليست معنية بالدخول في صدام مع الجزائر، ولا تعتبر مواجهتها ضمن أولوياتها، لكنّها مستعدّة للقيام بالكثير ضدّها في سبيل تثبيت تعميق تحالفها مع المغرب، وتثبيت أقدامها في المغرب العربي عموما.
هجمة إسرائيلية في افريقيا
قد يبدو التطبيع المغربي مع إسرائيل انسلاخا عن الأمة العربية، فالمغرب ينضم إلى الركب العربي الجديد السائر نحو تل أبيب، وهو بهذا يركب الموجة القائمة فعلا، وما يسمعه من دول عربية أخرى هو دعم وليس تنديدا. من هنا الجرأة على رفع مستوى العلاقة العلنية مع إسرائيل، التي تستغل ذلك لتحقيق مآرب في المغرب نفسه وعلى المستوى العربي والافريقي. تسعى إسرائيل في السنوات الأخيرة إلى توسيع علاقاتها ووجودها في الدول الافريقية، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، بسلسلة من الزيارات في افريقيا، أسفرت عن قفزة في العلاقات الإسرائيلية الافريقية، وأدّت إلى زيادة كبيرة في الصادرات العسكرية ووصلت إلى القرار بضم إسرائيل كعضو مراقب في منظمة الوحدة الافريقية مع مسعى إلى رفع مستوى التمثيل. ويعتقد مهندسو استراتيجية إسرائيل الافريقية، أنّ المغرب هو مكان ثابت تقف فيه إسرائيل لتحرّك “العالم الافريقي”، كما تريد وبقدر ما تستطيع ممّا تريد. في مقال نشر مؤخّرا، قدّر الخبير الأمني الإسرائيلي داني سترينوفيتش، أن افريقيا ستكون حلبة الصراع المقبلة بين إسرائيل وإيران. وبنى تقديره، الذي في ما يبدو لم يخترعه بل سمعه من مسؤولين، على ما وصفه بالتغيير في السياسة الخارجية الإيرانية بعد انتخاب رئيسي باتجاه الاستثمار في التمدد في الشرق الأوسط وافريقيا. ودعا إلى التصدّي لما سماه أذرع إيران وحزب الله في افريقيا، واعتبرها مصدرا للقلق الأمني من جهة، وقناة لتمويل منظمات معادية لإسرائيل في مقدمتها حزب الله اللبناني من جهة أخرى. يعتقد المغرب أنه يستغل إسرائيل لتحقيق ما يعتقد أنه مصالحه في الصحراء الغربية والمواجهة مع الجزائر والعلاقة مع الولايات المتحدة وتطوير قدراته العسكرية والمخابراتية. ولكن لو وضعنا كل هذا، على علّاته، في الميزان فهو أقل بكثير مما تجنيه إسرائيل استراتيجيا، في الحصول على أهم إنجاز وهو إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، والإبقاء على الإطار الضيّق للصراع مع الشعب الفلسطيني. إضافة إلى الغنائم الاستراتيجية المتمثّلة في تفكيك المنظومة العربية وإخضاع المغرب لمنطق الصراع مع إيران واستغلال أرضه منطلقا للنبش في الدول الافريقية المختلفة.
يقول المغرب بأنّه يسعى للمصالحة مع الجزائر، ومن المؤكّد أنّه يريد ذلك بشروطه، فعليه أن يعي أن الحلف العسكري مع إسرائيل هو سير بالاتجاه المعاكس. إسرائيل تحشر أنفها في الخلافات والصراعات العربية لبناء التطبيع، ومن مصلحتها تأجيج هذه الصراعات. ومن يريد حلّا للأزمة بين المغرب والجزائر عليه أن يبتعد عن إسرائيل.
"إسرائيل" تحشر أنفها في أزمة المغرب العربي وهذا خبر سيئ!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 02.12.2021