أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 05.11.2021

يقف الإنسان البسيط هذه الأيام حائراً في عصر بات كل شيء فيه مكشوفاً ومفضوحاً وخاصة ألاعيب السياسة وقذاراتها.ماذا نفعل في زمان باتت فيه الدول في الشرق والغرب تتصرف بعقلية السفلة والأنذال والمجرمين والخارجين عن القانون والقوادين المنزوعين من كل أنواع الأخلاق والقيم؟
لم تعد حتى الدول الكبرى تخفي طبيعة تفكيرها وسياساتها واستراتيجياتها القذرة. صحيح أن ماكيافيلي وضع كل الأسس لقذارات السياسة في كتابه الشهير «الأمير» قبل قرون، وصحيح أن الدول تتصرف على أساسه أيضاً منذ عقود، ألا أن الناس البسطاء لم يكونوا على اطلاع كامل على حقيقة السياسة ونذالة السياسيين والحكومات والأنظمة كما هم الآن، فظل الإنسان البسيط ملتزماً بالقيم الأساسية يتصرف بانضباط خوفاً من القوانين لأنه كان جاهلاً بسفالة السياسة وقرفها دون أن يعلم أن الذين انتخبهم أو نصبوا أنفسهم حكاماً عليه هم أردأ وأحقر بني البشر في تفكيرهم وتصرفاتهم.
اليوم ينظر الناس إلى تصرفات الدول والحكومات التي كانوا يعتبرونها في الماضي بمثابة «الأنا العليا» التي تترفع عن الصغائر والتصرفات الفردية الدنيئة والسافلة، فيجدها تتصرف بطريقة الأنا السفلى، إن لم نقل بعقلية أسفل السافلين. لقد غدا الإنسان العادي السليم يتساءل: من يمثل «الأنا العليا» الدولة أم أنا الإنسان البسيط؟ وهو جداً محق في تساؤله، لأن الدولة في العصر الحديث باتت رمزاً للانهيار الأخلاقي والقيمي والإنساني، لأنها تضرب عرض الحائط بكل القيم والأخلاق والنواميس البشرية البسيطة وتتصرف فقط بناء على المصلحة الضيقة القذرة على مبدأ ماكيافيلي الشهير «الغاية تبرر الواسطة» حتى لو داست على كل القيم والأخلاق والقوانين الإنسانية الفطرية من أجل المصلحة. وقد جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليميط اللثام عن العقلية الحقيقية للدول الكبرى القائمة على التشبيح والنهب والسلب وتفضيل المصالح الخاصة على أي شيء آخر. وهذا لا يعني أن الدول الكبرى فقط تتصرف بهذه العقلية الساقطة، بل إن كل الدول باتت تتصرف بناء على مصالحها المادية حتى لو تعاملت مع الشياطين أنفسهم.
لقد لخص الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون عقلية الدولة عندما سألوه: «كيف لأمريكا التي تتشدق بحقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية العليا أن تحتضن ديكتاتوراً قذراً من حكام أمريكا اللاتينية أقل ما يقال عنه إنه ابن حرام أو ابن زنا» فقال نيكسون قولته الشهيرة: «صحيح أنه ابن زنا لكنه ابن الزنا بتاعنا» الذي يخدم مصالحنا. وبما أن الدول كلها تتصرف بناء على مقولة نيكسون، ماذا يفعل الإنسان العادي المستقيم وهو يرى أن الدول تصف أعمالها الشريرة القذرة بالأعمال الوطنية، بينما إذا تصرف الإنسان البسيط أي تصرف غير لائق يتعرض للعقاب وربما يدخل السجن؟ لكن الدول ستدفع الناس البسطاء بأفعالها القذرة إلى التساؤل: لماذا أضحي بمصلحتي من أجل أحد؟
لماذا لا أحافظ على مصالحي الشخصية بأسناني كما تفعل الدول؟ لماذا حلال على الدول أن تدوس على كل شيء من أجل مصالحها القذرة، وحرام على الفرد أن يداري على مصالحه الخاصة؟ أليس حرياً بنا أن نقول: «دائماً فكر بمصلحتك أولاً وأخيراً كما تفعل الدول ليل نهار. فكر بطريقة أنانية جداً. أليست هذه للأسف النصيحة غير المباشرة التي تقدمها الدول للناس العاديين بشكل صارخ؟ هل تريد من الإنسان العادي مثلاً إذا كان له مصلحة مع مجرم قذر أن يهاجم المجرم ويشوه سمعته بين الناس، أم إنه سيمتنع عن التشهير بالمجرم وسيلتزم الصمت أو ربما يحاول تبييض صفحة المجرم كما تفعل الدول مع بعضها البعض حفاظاً على مصالحها؟ ألا ترون مثلاً كيف تتغاضى دولة ما عن التصرفات الإجرامية القذرة لدولة أخرى وربما تحاول تلميعها في وسائل إعلامها فقط لأن لديها معها مصالح تجارية أو اقتصادية؟ هل إذا كان لدى دولة ما عقارات وأعمال ومصالح مشتركة في بلد ما، هل تهاجم ذلك البلد إذا كان حكامه يتصرفون كاللصوص وقطاع الطرق والمجرمين، أم تسايرهم وتمتنع عن الحديث عن جرائمهم وقذاراتهم أو ربما تثني عليهم في وسائل إعلامها؟ لا شك أنك ستسأل نفسك ذلك السؤال، وستقول: لماذا لا أتصرف كما تتصرف تلك الدول التي تتغاضى عن جرائم دول أخرى فقط من أجل مصلحتها وتجارتها؟ لماذا أضحي أنا بأرزاقي ومصالحي مع شخص قذر من أجل أحد إذا كانت الدول تسخّر وسائل إعلامها من أجل مصالحها الخاصة أولاً وأخيراً حتى لو صمتت أو سايرت أنذل الحكومات والأنظمة المجرمة والقاتلة حفاظاً على مصالحها معها؟ المنطق المصلحي يقول: لا تعادي جهة أو شخصاً لديك عنده مصالح أو أرزاق. ولنا في أمريكا أفضل مثال.كما هو معلوم في أمريكا، فإن الشركات العملاقة تمتلك معظم وسائل الإعلام، لكنها هل ستسمح لوسائل الإعلام المملوكة لها أن تضر بمصالح شركاتها حتى لو كانت تمارس أقذر التصرفات، أم إنها ستمارس التعتيم أو ربما تدفع وسائل الإعلام للحديث بإيجابية عن تلك الشركات حتى لو كانت من أقذر ما يكون؟ لقد أصبحت لعبة الإعلام في العالم مفضوحة للغاية: طالما ليس لدى هذه الجهة أو تلك مصلحة مع هذا النظام أو ذاك، فلا بأس أن تمسح به الأرض حتى لو لم يكن يستحق ذلك، وإذا كان لديها مصلحة مع نظام غارق في القذارة والسفالة، فلا بأس أن تمتنع عن استهدافه، أو أن تستر مساوئه وسفالاته ونذالته. ألا تفقد وسائل الإعلام هنا كل مصداقيتها بعد أن تحولت إلى ما يشبه البغل الذي يضعون على وجهه طماشات بحيث يرى فقط في اتجاه واحد يخدم مصالح أصحابه القذرة كما نرى في العديد من وسائل الإعلام الدولية.
هل هناك إعلام لوجه الله في العالم، أم إن الإعلام كان ومازال مجرد أداة قذرة في خدمة السياسة والاقتصاد ومصالح مالكيه كما أظهرت التجربة الغربية وغيرها، إلا ما رحم ربي؟

1