أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
حياتنا البلاستيكية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 03.11.2021

القضية البلاستيكية، هذا ما أطلقته على الخلاف الذي بات مزمناً بين أحد الأقرباء وزوجته.
منذ بداية حقبة أواني الطعام ذات الاستعمال لمرة واحدة، اتخذ الرجل موقفاً واضحاً وصريحاً، وأعلن أنه ضد استعمال الأواني أحادية الاستعمال للشَّراب والطعام في بيته لأسرته أو لضيوفه.
لم تكن خطورة استعمال البلاستيك الصحِّية قد كُشفت بعد، ولم تثبتها دراسات، كان هذا موقفاً يتعلق أكثر في ذوقه الخاص، وثقافته التي احترمت الخزف والزجاج منذ أجيال.
هذا الرجل من جيل يرى في الطعام نعمَة كبيرة، ويجب أن تُقدَّم كما يليق بها، ورأى في البلاستيك مادة دخيلة على حياتنا، ومبتذلة جداً، ولا تستحق شَرف تقديم الطعام والشَّراب فيها، إلا في حالات الضرورة القصوى. «قل لي بربِّك، كيف يمكن تقديم الكُبِّة في طبق بلاستيك؟ كيف يمكن تقديم البامية أو شوربة العدس أو الملوخية أو الفول واللوبية بأطباق بلاستيك؟ لا اعتراض لي على مقاعد وطاولات وأحذية ومكاتب وخزائن وأسرَّة بلاستيكية، أما الطعام والشراب في بلاستيك وفي البيت! فلا وألف لا».
«أتفهّم تقديم وجبات سريعة في مهرجانات يحضرها الآلاف، أو لطلاب مدارس، أما أن يقدّم في البيت لأبناء الأسرة أو الضيوف فهذا عيب ومرفوض».
حاولتْ زوجته أكثر من مرَّة فرض الأمر الواقع، من خلال تجاهل رغبته، فتضع أواني البلاستيك على المائدة لجميع أبناء الأسرة، في البداية كان ينبِّهها وينوّه: «اعملي معروف بلاش البلاستيك، أنا أريد أن آكل في أوانٍ تقليدية!»، فتستبدل له آنيته دون الآخرين.
لم تيأس وكرَّرت محاولاتها، وصار في كل مرة يرفع صوته ويعترض بحزم أكبر، وهي تكرِّر المحاولات على أمل أن ييأس ويستسلم، لكنه صار يصرخ ويرفع صوته أكثر وأكثر حدَّة: ألف مرة قلت لك أنا لا آكل ولا أشرب في أوانٍ بلاستيكية…
-كل الناس تأكل في بلاستيك…
-فليأكل الناس في إطارات كاوتش وبلاستيك، افهميها مرة وإلى الأبد، أنا لا آكل في أوانٍ بلاستيكية، أنا لم أتعب ولم أشتغل عقوداً في الليل والنهار، في الصقيع وتحت لهيب الشمس الحارقة كي آكل في نهاية المطاف في طبق وشوكة من البلاستيك…
ثم يوضِّح شارحاً موقفه: في بيتنا مئات الأطباق والأكواب من مختلف الأحجام، من الزجاج والخزف، عندنا كراتين لم تُفتح بعد، بعضها قُدِّم لنا كهدايا، وبعضها اقتنته هي بنفسها، فما الداعي لاستعمال البلاستيك! حسناً، إنها تريد أن ترتاح من جَلي الأواني؟ لهذا اقتنينا جلاية كهربائية منذ سنوات، فأين المشكلة؟ أنا الذي سأتكفل بالجلي، مليح؟! أقول لها، إنه مضرٌ بالصِّحة، فترُدُّ: الهاتف أيضاً مضر بالصحة، فلماذا تستعمله! ثم إنّه لا إثبات لضرر البلاستيك؟
-يا بنت الحلال، إذا كانت الأسماك والحيتان في المحيطات تتضرّر، وصارت تهرب إلى اليابسة، والتربة تخرب حيث يدفنونه، فكيف لا يتأثر جسم الإنسان؟ يحتاج طبق واحد من البلاستيك إلى ألف عام كي يتحلَّل!
فتردُّ: الزجاج أيضاً لا يتحلَّل؟
-صحيح، لكن مُركّبات البلاستيك تحوي مواد كيميائية خطيرة مُسرطنة وسامة ليست موجودة في الزجاج، ثم أنتِ حرَّة في صحَّتك، هذا شأنك، لكن ماذا مع الأبناء والأحفاد؟
فتقول: إنهم يرحبون بتناول الطعام في أوانٍ من البلاستيك؟
-الأبناء والأحفاد لا يعرفون مصلحتهم، ليس عندهم ذوق، وواجبنا نحن الكبار أن ننمّي ذائقتهم بالاتجاه الصحيح، وإلا فإنها ستتشوَّه وسوف يستحيل إصلاحها.
فتقول: مئات ملايين الناس لا يملكون الطعام أصلاً، وأنت تتبغدد على كيفية تقديمه؟
– كان الله في عون المضطرين والمحتاجين، لكن أنا لست مضطراً إلا في حالات نادرة! أنا أتقبَّل الأمر في مناسبة كبيرة يشارك فيها المئات، أما في بيتي؟ البلاستيك على المائدة يستفزُّني، أشعر بأن اللّمة الأسرية غير ثابتة، البلاستيك يعني..هيَّا كلوا بسرعة وتفرّقوا، البلاستيك عدوُّ الاستقرار والثبات.
يحدِّثني ويقول: في أحد الأيام دعوتُ أقرباء لي إلى وليمة عشاء، جاءت شقيقتها وعديلي لمساعدتنا، وقبيل وصول الضيوف بدقائق، وزَّعت الأوعية وأدوات الطعام على المائدة، وإذا بها كلها من البلاستيك! كدت أفقد صوابي- ولِك بلاستيك؟ بلاستيك لضيوفي؟
-هذا ما يفعله كل الناس؟
-الناس، الناس الناس؟ نسبة الطلاق عند الناس وصلت إلى أربعين بالمئة، فما رأيك بأن نتطلّق مثل الناس؟
رغم احتجاجها ومعارضتها، جمعتُ الأطباق والأكواب والسكاكين والملاعق وكل ما على الطاولة من بلاستيكيات في كيس من النايلون ورميته في المخزن: «هذا فقط في حالات خاصة جداً، يعني لحالات طوارئ، حالات غير اعتيادية، لكن ليس لحياة يومية مستقرَّة».
«كنتُ في حفل زفاف أقيم في متنزَّه مفتوح، هبَّت ريحٌ قوية، وكم كان محرجاً لصاحب الفرح ولضيوفه ولصاحب المُتنزه، الأطباق والملاعق والكؤوس طارت عن الموائد وانتشرت في المتنزه، أنا اضطررت إلى التمسُّك بطبقي كي لا يطير، محاولاً تلافي الإحراج، تصوّر أن الضيوف ممسكون بأطباقهم خشية أن تطير! لا أنسى مرة، حاول أحدهم قطع خيارة مكبوسة بسكين بلاستيك.. طارت الخيارة إلى حضن سيدة كانت على بعد ثلاثة مقاعد عنه! صار وجهه مثل البندورة، واعتذر ثم ترك المائدة».
«البلاستيك غريب في الطبيعة، لا توجد بكتيريا تحلّله، وهو من أكبر ملوِّثات البرِّ والبحر. والقضية ليست مقتصرة على البلاستيك، بل على نهج حياة، في هذه البلاد يستهترون بكل شيء، وهذا يشمل اليهود والعَرب، هل تعرف لماذا؟
إنه الشعور بعبثية كل شيء، يتنامى يوماً بعد يوم، كل شيءٍ بلاستيكي، هنا يستهلكون من البلاستيك سبعة أضعاف المعدَّل في دول الاتحاد الأوروبي! لا مسؤولية لدى الناس، حتى تجاه صحَّتهم وأسرهم، وليس فقط تجاه البيئة، أما المقاولون والشركات، فهم مخرِّبون للأراضي والشواطئ والجبال، لا هم لهم سوى المزيد من الرِّبح والمال، غير عابئين بنتائج ولا بمستقبل، كلُّ شيءٍ آنِيّ ومؤقت، لا ثقة باستمرار وثبات أي شيء، تشعرُ بأن الناس في دوامة وأنهم فقدوا الاتجاهات، عِش يومك ولا تلتفت حولك، عش لحظتك ولا تفكر في السَّاعة القادمة، اربح بقدر استطاعتك حتى ولو تركتَ وراءك الخراب، حتى الحكومة غريبة الأطوار وبلاستيكية، تشعرُ بأن هذه الدولة كلها باتت للاستعمال لمرة واحدة فقط…

1