تجمع العائلات أو العشائر قد يفيد في حالة انحلال السلطة، وفقدان البوصلة، وغياب القانون، وقتئذ، قد يكون الإنسان بحاجة إلى عائلة أو عشيرة أو تجمع قروي، ينضوي تحت رايته، يعطيه الولاء، ويأخذ منه الحماية والسلامة.
لدينا في غزة نائب عام ذكي وفطن ونزيه، ولدينا نيابة قادرة على معالجة كل إشكاليه بين أفراد المجتمع، وهي مرجعية قانونية، ولدينا في غزة شرطة فلسطينية لها من الكفاءة والحضور الميداني ما يبعث على الاطمئنان، ولدينا في غزة المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية، وهي تقوم بواجبها، وتفصل في قضايا الخلاف بين الناس وفق الأصول القانونية المتعارف عليها.
ولو استعرضت مجمل أنشطة الجهات الرسمية لوجدت معظمها يتوخى العدل والنزاهة، ولا ترى في التمايز بين الناس مصلحة او منفعة، بما في ذلك لجان الإصلاح، ولجان العشائر، ومؤسسات المجتمع المدني، وكلها تحرص على حل مشاكل المجتمع بالشكل الموزون، وإن كان هناك بعض الأخطاء، إلا أن الجو العام يسعى إلى تحقيق العدالة إلى حد ما.
ضمن هذه المعادلة الحضارية، والتي يعيش فيها المواطن في كنف الدولة، فلا حاجة إلى تجمع عائلة كذا، كي تنتزع حق الضعيف، ولا داعي للانتماء إلى عشيرة كذا، كي توفر الحماية لمطلوب، أو لتغيث ملهوف، فمؤسسات الدولة قائمة، وتفي بالغرض، حتى صارت البديل الناظم والجامع لحياة المجتمع ككل، وهي البديل المنطقي لكل أشكال التجمع العائلي والعشائري.
إن تجربتنا الفلسطينية تقول: في الوقت الذي لم يكف العدو عن صهر كل الأجناس والقوميات والطوائف والأعراق داخل المجتمع الإسرائيلي في بوتقة الدولة، التي اغتصب أرضها، لم يكف العدو للحظة عن النفخ في قربة العائلية والعشائرية داخل المجتمع الفلسطيني، ولقد انعكس ذلك على ثورة 36، حين أفشلها الاستعمار من خلال تكتل العائلات وخلافاتهم، وقد انعكس ذلك على نكبة 48، وكيف أسهمت العائلية في ضياع الأرض، وانعكس ذلك في ظهور روابط القرى، التي اعتمدت على بعض العائلات، وهذا ما حدث في السجون الإسرائيلية، حيث انتشرت العائلية والانتماء للمنطقة بين الأسرى الفلسطينيين قبل أربعين عاماً، حين تكتل الأسرى في السجون حسب المناطق، فصار سجناء غزة يستعدون لملاقاة سجناء خان يونس، وتحالف سجناء منطقة الخليل ضد سجناء منطقة نابلس، وهكذا، تغلب الانتماء للمناطق والعائلة على الانتماء لفلسطين، وقد أدى الانقسام هذا إلى صراعات وشجار بالأيدي والمواد الحادة بين السجناء، حتى إذا انتبه نفر وطني ذكي قيادي إلى خطورة العائلية والمناطق على حياة الأسرى، عملوا على تعزيز الانتماء التنظيمي، والذي لا يخلو من بعض السلبيات، ولكنه يمثل روح الانتماء لفلسطين، ويمثل البديل المتماسك في وجه حالة التمزق والتشرذم.
في قطاع غزة، بدأت تظهر في الفترة الأخيرة تجمعات عائلية وعشائرية، يكمن في داخلها التمايز عن بقية المجتمع، والانضواء تحت راية تكتل بعينه، وهذه سلبية تعاني منها مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وانعكست على حياتهم صراعات وخلافات ونزاعات، بل وصلت إلى حد إطلاق النار المتبادل في أكثر من قرية وحارة ومدينة في الضفة الغربية، ولقد ظهر الشيء نفسه بين فلسطيني 48، والذي أسهم في تنامي الجريمة، فالعائلية وتر حساس، يعزف عليه الاحتلال، ويعمل على تغذيته بكل السبل، فبمقدار ما تتنامى العائلية والعشائرية بمقدار ما تضعف السلطة المركزية، وفي هذا خطر على وحدة الوطن، وعلى شكل المقاومة للمحتلين.
وحتى لا نظلم التجمعات العائلية بالمطلق، فقد يكون في تجمع بعض العائلات فائدة ثقافية وعلمية ومالية، وقد تتفاخر العائلة بعدد المتفوقين داخلها، وقد يلتئم شمل العائلة لمساعدة بعض المحتاجين من أفراد العائلة، وقد تشكل العائلة رادعاً لأفرادها من فعل الفاحشة، وأبناء العائلات حريصون على سمعة عائلاتهم، شرط ألا يتحول الانتماء إلى العائلة بديلا عن الانتماء للوطن، وبحيث لا تشجع العائلية على الانفلات، والخروج عن القانون.
ظهور العائلية في المجتمعات مؤشر خطير، قد تغذية جملة من الأخطاء السياسية، والممارسات التنظيمية، ولكن هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة أوسع، وهذه مهمة الباحثين والمختصين في علوم الاجتماع والإدارة والنفس البشرية، وهم الأقدر على الغوص عميقاً لمعرفة الأسباب التي أيقظت روح العائلية داخل المجتمع، فمعرفة الأسباب تقدم للقائمين على الأمر الجواب.
ما حاجة غزة إلى التجمعات العائلية والعشائرية؟
بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 26.10.2021