أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لغة عظيمة مكونة من مفردة واحدة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 19.08.2021

في لحظة ما، يخيّل إليّ أن الإنسان وجد نفسه يقف على الحافة، حافة زمنين، وأن ما مضى سيتغير تماماً؛ الزمن وإيقاع خطوات البشر، عندها كان لا بد له من يوقف الزمن فاخترع الكاميرا لتثبيته.
بعد سنوات، لم تعد الصورة كافية، فهناك خطى أسرع، هناك القطار، وهناك سكة الحديد، هل كان مخترع الفيلم السينمائي يقف متأمِّلاً سكة الحديد بقضبانها وعوارضها الخشبية حين صاح: وجدتها، ومضى لاختراع أول فيلم -يشبه شكلها للمصادفة- قادر على استيعاب الحركة؟ الحركة التي باتت أسرع وقد تزايدت سرعة القطار واختُرعَتْ السيارة، وبدأ التسابق البشري المحموم يتصاعد في الاتجاهات كلها، وأفق التحولات بعالم جديد يتجلّى.
بعد ذلك، يبدو لي أن التسارع في إيقاع الأفلام السينمائية ارتبط كثيراً بتغيّر إيقاعات الحياة، وهو إيقاع لم تتباطأ سرعته منذ بداية الثورة الصناعية، حتى ليبدو أحياناً أن سرعة إيقاع كثير من الأفلام هي سرعة إيقاع الحياة في الزمن الذي أنتجتْ فيه!
هناك من أدرك مخاطر السرعة التي باتت تسارعاً يمنحنا أفلاماً أقرب إلى العلف، أو الوجبات السريعة، في طريق البشرية إلى الوجبات الأسرع! حتى وصلنا إلى فائض الرداءة في صناعة السينما، وكأن ملفّقي هذا النوع من الأفلام في سباق مع الهمبورغر.
ربما ما ينطبق على الصورة الثابتة التي تحوّلت إلى فيلم، أصاب الرواية التي تحولت إلى فيلم أيضاً، فهناك من يريدها وجبة جاهزة: فيلماً، يبتلعها مُشاهِدُهُ في ساعتين، ويهضمها في اللحظة التي تبدأ أسماء العاملين في الفيلم بالظهور في نهايته، وينتهي من هضمها قبل وصوله إلى الشارع.
لكن هناك دائماً من يدرك المكيدة، فيبحث عن الرواية التي نادراً ما تفوّق عليها فيلم اقتبسها. يعود البشر إلى الرواية، أي يعودون إلى التفاصيل التي أُهمِلْت، الشخصيات التي حُجِّمتْ، وإلى أفلام أقل سرعة، لكيلا يواصلوا اللهاث أمام الشاشات، هم الذين يدركون فداحة وآلية اللهاث خلف كل شيء!
ليست هذه محاولة لهجاء السينما، هذا الفن العظيم، بل محاولة لمديح لغته الأولى المكونة من مفردة واحدة، هي الصورة. أعرف أن هناك إضافات أخرى على هذه المفردة، ولكنها إضافات (الصوت الموسيقى..) أشبه بالتشكيل الذي نضعه فوق حروف كلمة ما.
نحبُّ السينما، ولكن أعيننا مهما تمتّعت بقوة إبصارية، غير قادرة على التقاط كادر واحد؛ نرى جريان الصور، لا الصورة المفردة. ربما محبتنا لفن الفوتوغراف، هي أيضاً نوع من التوقف عن لهاث متابعة الفيلم. أمام الصورة نتنفّس، أمامها ندرك عظمة المفرد وقدرته الفائقة خارج قطيعه فائق السطوع، الذي يتباهى بالوفرة؛ وفرة الصُّور المتتابعة.
2 – تصوير ثرثار
بعد توثيقها للحظة، غدت الصورة وسيلة لتأمل عالمنا، لأنها أتاحت للمصورات والمصوِّرين انتقاء موضوعاتهم، في لحظة كثافتها-كثافتهم، موضوعاتهم الحاضرة الغائبة، من وجوه ومشاهد وجمال مُهمَل.
ربما هذه هي قوة الكلمة، قوة الصورة، قوة الموسيقى… التي تنقّي حواسّنا من كل ما عَلِق بها من شوائب، مثل أولئك البشر الذين يُطلّون من بين (القطيع) فيُنقُّون أرواحنا من كلّ ما عَلِقَ بها من مرارة، وينقّون نظرتنا إلى العالم من كلّ ما علِقَ بها من غبار وضباب. ويعيدون لنا القدرة على الرؤية، في طريقهم لمنْحنا سلالم الرؤيا. أكتب هذا لأصل إلى سؤال: هل الوفرة تخلق الاستخفاف؟ وهو سؤال يدعو للتأمل، ويمسّ كل ما حولنا، ويمسّنا، من الطفل الصغير الذي يجد عشرات الألعاب حوله، إلى الجنرال الذي يجد عشرات الملايين من البشر منصاعين له، إلى هواتفنا الممتلئة بآلاف الصور وبـ (كل شيء).
في ظنّي أن (كل شيء) هو المشكلة، وأعني الكم السّهل «كمّ» ما بعد السّرعة، ما بعد اللهاث؛ فلا من يُصوِّر يدرك معنى الصورة التي يلتقطها بهاتفه، ولا من تُلتقط له الصورة! الصورة التي تحوّلت إلى شكل من أشكال الثرثرة منذ تطوّر الهواتف النقالة، كفائض الكلام على التطبيقات. في صور الهواتف، هنا، بشر عابرون، المصوِّر وموضوعه؛ أو لنقل لا الصورة التي تُلتقط تَعلَق بروح مصورها، ولا الموضوع نفسه: الإنسان. الإنسان الذي يتحوّل في لحظة التقاط صورته إلى ما يشبه شجرة ضجرة مستعجلة، ناسية أنها لا تتحرك، أو حصاناً يعدو داخل حظيرته، معتقداً أن هذه هي الحرية، أو غزالة في قفصها تأكل جيداً، مدركة أن القفص أصغر من الغابة، ولكن الحياة فيه مريحة أكثر من ذلك الفضاء الذي بات جزءاً من ذاكرتها البعيدة!
في ظني أن الوفرة الثرثارة هنا هي وجه من وجوه التّسارع، تشبه كثيراً الفيديوهات الخاطفة السهلة، الفيديوهات والصور- «العبور» عكس الصورة الفوتوغرافية المتقنة- «الإقامة». إقامة تعيد القيمة للجزء، للتفصيل، للنادر. ولعل الفيديو الخاطف يشبه حياتناً؛ إذ علينا أن نوقفه في لحظة ما لندرك أهمية كادر ما، هذا إذا انتبهنا، لما فيه أو لما في حياتنا.
أن ترى الجمال يعني أن تقيم فيه، لا أن تؤجله، أو تحفظه ليوم قادم، لن يأتي لأنك حتماً ستنساه وهو يتراكم، فتلقي به إلى سلّة المهملات أخيراً. الصورة التي نختارها حقّاً قرار روحي لجمال لا يمكن تجاوز لحظته، تفصيل نحتفي بفائض دلالاته. ربما يكون الفيديو الثرثار أيضاً احتيالاً بشكل ما، فألف صورة متتابعة لا تستطيع مقارعة جماليات صورة ثابتة مؤثرة يفيض فيها الدمع ولا تراه، وتحتار في معنى ابتسامتها كما تحتار في ابتسامة الموناليزا. ألم يكن اسم الرّسم هو التصوير؟
والصورة جوهرة، والجوهرة تنتمي لعالم النُّدرة لا عالم الحجارة، وإن اختبأت بينها، إنها الاستثنائي الذي يفرض علينا بقوة استثنائيته أن نراه ما إن نلمحه، نحبّه، نتعلّق به، الذي يختطفنا من عمانا، ومن رضانا الدائم، من عدم اكتراثنا ومن عاديتنا.
قيمة الجوهرة في ذاتها، وفي قدرتها على أن تدرك ذاتها، ربما. ولكن التفاصيل الصغيرة الجميلة، الملامح المسحوقة بحزنها، أو المُحلِّقة بفرحها، تحتاج دائماً إلى من يحتضنها، وهنا تكون الصورة، (غير العابرة بالتأكيد) القادرة على أن تُجري حواراً لا ينتهي مع صمت الكائنات في أنفاق ذاتها وفي أنفاق ذات مصوِّرها.. هنا تكون أهمية إحالة الجميل العابر إلى مقيم مسؤولية كبيرة بالتأكيد، الإيمان بها نصف الطريق. لكننا في كل الحالات، علينا أن نتذكّر، ونحن نتعامل مع الفن، أنه القيمة المطلقة للجزء، الذي إن لم نره ونحسّه حقاً، لا كلَّ لنا، سواء كنا نتحدث عن رواية، أو قصيدة أو فيلم.. أو بحر فاتن الأمواج أو إنسان!

1