أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
تينتي مريضة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 12.08.2021

مسكينة شجرة التين التي تضرب جذورها منذ عقدين ونيف في ساحة بيتي، أوراقها صفراء وثمارها صغيرة جافة تتساقط قبل نضوجها، تبدو هذه كمقدِّمات لانهيارها، ربما سأضطر إلى قطعها من أسفل الجذع، كي أسمح لخلوفها أن تتجدّد، فهي تينة فريدة من نوعها، أكوازها كبيرة مُشهية، فيها أكثر من لون ومذاق، ولن أفرَّط بها.
خطر في بالي تساؤل أكثر من مرة إذا ما كانت الأشجار تشعر بالألم!
الحمد لله أنه ليس لها جهاز عصبي مثل الحيوانات، وإلا لهزَّ صراخها أركان الأرض، تخيّلوا كيف سيكون الحال مع الحرائق التي تكتسح عشرات ملايين الأشجار في المنطقة والعالم.
الشَّجرة لا تشعر بألم أو بتوتِّر، لا بِحرٍ ولا ببرد، لكنها تمرض وتذبل وتتوقف عن العطاء.
ينتابني شعور حقيقي بالأسف على شجرة أطعمتني لأكثر من عقدين، أعطت بسخاء، فتلذذت بثمارها وأهديتُ منها إلى من أحبُّهم.
صارت تبدو شبه عارية، كأنها ممزقة الثياب، أشعر بالذنب، فلا بدَّ أنني قصَّرت تجاهها، وأهملت صحتها، أنا المذنب إذ تركت الحشرات والدود والسُّوس يفتك بها دون أن أنتبه، وربما لم أقدِّم لها ما تحتاجه من ماء ودواء في الوقت المناسب، وربما أصبحت تربتها فقيرة في العناصر الضرورية وكان علي أن أسمِّدها، وأن لا أبخل أمام عطائها اللامحدود، العناية والاهتمام هما ما تحتاجه الشَّجرة كي تعطي أقصى وأفضل ما لديها.
في الموسم الماضي أعطتْ بصورة عجيبة، كانت في أوج عنفوانها غزارةً ونوعية، بهجة للنظر، ومتعة في المذاق، قطفت منها في كل صباح مئات الأكواز، وكانت متعتي أن أوزعها على القريبين من أصدقاء وجيران وأقرباء.
بحثتُ عن أسباب هذه الأعراض، فوجدت عدة احتمالات، ولكن يبدو أن أقربها إلى وضعها هي الحشرات والسّوس الذي فتك بجذعها وجذورها.
رأى قريب لي ما أصاب تينتي، فأخبرني بأن لديه شجرتين أصيبتا بهذه الأعراض نفسها، ويبدو أن أكثر أشجار التين في البلدة مريضة، اصفرار وثمار صغيرة تتساقط قبل نضوجها، إنه مرض جماعي، وباء يضرب معظم الأشجار.
عدد أشجار التين ينحسر عاماً بعد عام، هذه الثمرة التي كانت مرادفاً لاسم بلدتنا، تراجعت كثيراً، صار أكثر الناس يشتريها من دكاكين الخضار، بعدما كنا نزوِّد منها حيفا وعكا ومنطقتها.
كل من زارني في هذه الفترة قدّم ملاحظته وخِبرته أو ما سمعه من معلومات حول شجرة التين ورعايتها، والفترة التي تعيشها وأمراضها، وعن كيفية وموعد تقليمها، وضرورة تعريضها أكثر ما يمكن للشَّمس.
كذلك تحدّث البعض عن التغيُّرات المناخية التي تؤثر على الأشجار المثمرة، والأمراض الغريبة التي صارت تضرب المحاصيل الزراعية في كل مكان، وتنذر بمشكلة للبشرية، وللشعوب الضعيفة بشكل خاص.
حاولت رشَّ مبيدات على جذعها وحولها، لكن يبدو أن هذه الإجراءات باتت متأخِّرة.
أكثر من واحد ممن عرفوا فضلها عبَّر عن زعله على تينتي.
سألني بعض من عوّدتهم على زيارة مفاجئة في الموسم: شو مع تينتك السِّنة؟ هل هي بخير؟
أشرحُ ما الذي أصابها، ولكل واحد نصيحة مختلفة، وهذا يجرّنا إلى أحاديث التِّين، حيث كانت هذه الشجرة قبل عقود مصدر دخل إضافي لأسرٍ كثيرة، ولكنه تلاشى، بسبب ما طرأ من تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية على الناس والأرض وشقِّ الطرق الحديثة والبنيان، فقد أُهمل ما تبقى من التين، والشَّجرة التي تنهار لا يزرعون مكانها، الأكثرية صاروا يفضِّلون الزيتون عليها لأنه لا يحتاج إلى حراسة، ثم إن مساحات الأرض الزراعية تقلصت بحيث لم تعد الأرض مصدراً للدخل.
كلما تذكَّرتُ قصيدة «التينة الحمقاء» لإيليا أبو ماضي، استنكرت هذه التهمة الموجهة لشجرةٍ حكم عليها الشاعر بالإعدام لتوقفها عن العطاء، هذا ربما ينطبق على بني البشر الذين يرفضون أن يعطوا وتقتلهم أنانيتهم وجشعهم، أما في حالة التينة، فالمذنب هو صاحبها الذي أوصلها إلى هذا الوضع، بحيث باتت عاجزة عن العطاء، وأمست مجرَّد وتد يابس في الأرض، وبدلاً من التينة الحمقاء كان أكثر صدقاً نظم قصيدة الفلاح المُهمِل، أو الفلاح الكسول وحتى الفلاح الأحمق.
تينتي أعطت الكثير بلا حساب وبلا تذمُّر، ولو كانت قادرة على التعبير لشكت بعبرة وتحمحم وأسفت لعدم قدرتها على مزيد من العطاء، ويبدو أنني لم أبادلها عطاءها بالعناية اللازمة.
ما حدث بيني وبين تينتي ممكن تطبيقه على الجماعة على مستوى البلدة، وحتى عالمياً، فكوكب الأرض كله مريض، والأشجار تمرض، والتي لم تمرض تحترق، والمياه تزداد تلوُّثاً وحرارة، والأوبئة تفتك بالأحياء بحراً وبراً وجواً وبالنباتات في كل مكان بسبب حماقة بني البشر وجشعهم وتحولهم إلى آلات استهلاكية بدون وعي، حتى باتت البشرية عاجزة عن إصلاح ما أفسدته في الطبيعة.
ما أعظم سلفنا الذي أوصى جنوده بأن لا يقطعوا شجرة… وما أتفه وأحقر أولئك الذين يحللون قطع أشجار الأغيار ونهب محاصيلهم، وكأن إلههم رئيس عصابة من اللصوص وقطاع الطُّرق!
يوم الجمعة الأخير، أعدم ديدان الأرض ولصوصها في قرية جبعة جنوب غرب بيت لحم، عشرات أشجار الزيتون التي تبلغ أعمارها أكثر من ستة عقود.
يدرك المجرمون الألم الذي يسببونه للأب الشرعي لهذه الأرض ولهذه الأشجار، ويتلذّذون بالألم الذي يسببونه لفلاح يذرف دموعه حرقة على أشجاره، لكنهم في الوقت ذاته، يثبتون أنهم غرباء عن هذه الأرض وأشجارها، يبرهنون ويفضحون ادعاءاتهم بالنسب إلى هذه الأرض، فمن ينتسب إلى الأرض لا يقتل أشجارها.
تينتي العزيزة، أنا آسف، أعتذر إذ أهملتك وتركت فرصة للسوس والديدان والحشرات والمرض أن يفتكوا بجمالك، ولكن قصَّتنا لن تنتهي، وعزائي هو بخلوفك الخضراء التي سوف تواصل وتستأنف مسيرتك المشرفة إلى الأبد…

1